مدونات

هل استحق صخر كل ذلك الرثاء؟

يناير 17, 2025

هل استحق صخر كل ذلك الرثاء؟

الكاتبة: شيماء طجيو

يُعدُّ صخر بن عمرو من أبرز الشخصيات التي خُلِّدت في دواوين الشعر العربي، حيث اقترن اسمه بأخته الخنساء “تماضر بنت عمرو”، التي عُرفت بفصاحتها النادرة وقدرتها البليغة على التعبير. وقد ارتقت بمكانتها إلى ذروة سامقة بين أعلام نساء العرب، حتى صارت رمزًا للذلاقة والبيان، مما جعلها تتقدم صفوف الأدباء والشعراء ما بقيت لغة الضاد. ولعلَّ شهادة النابغة الذبياني، إمام الشعراء، تؤكد ذلك حين قال لها بعد أن أنشدته إحدى قصائدها: “أنتِ أشعر النساء، ولولا أن أبا بصير أنشدني قبلك، لقلتُ إنك أشعر الناس على الإطلاق”.

منذ صغره، كان صخر مفخرة لأهله وقبيلته. فقد اعتاد والده “عمرو بن الشديد” أن يصطحبه هو وأخاه معاوية إلى المواسم، ممسكًا بأيديهما ومفاخرًا بهما قائلاً: “أنا أبو خيري مضر، فمن أنكر فليغيِّر”. ولم يجرؤ أحد على إنكار ذلك. ولم تكن مكانته بين أهله عادية، بل كان خير سندٍ لأخته الخنساء، رغم أنه لم يكن شقيقها. وقد تميز بكرمه وشهامته، فعندما واجهت الخنساء ضيقًا ماليًا بسبب مقامرة زوجها وخسارته المتكررة، لجأت إليه طلبًا للعون. فكان يجمع ماله ويقسمه نصفين، ويترك لها حرية الاختيار لتأخذ ما تشاء منهما.

أبدعت الخنساء في مدح صخر أثناء حياته ورثائه بعد وفاته بأسلوب حاذق، واصفةً كرمَه وشجاعته وخصاله الحميدة. ومما قالته:

سَمْحُ الخَليقَةِ لا نِكْسٌ ولا غُمُرُ
بَلْ باسِلٌ مِثْلُ لَيثِ الغابَةِ العادي
والمُشْبِعُ القَومَ إِنْ هَبَّتْ مُصَرصَرةٌ
نَكْباءُ مُغَبَّرَةٌ هَبَّتْ بِصُرّادِ

وقد تحول مدحها إلى رثاء بعد وفاته، حيث عبَّرت عن حزنها العميق وكأن كل فضائل الرجال اجتمعت في صخر وحده. ومن أبرز ما قالته:

أَعَينَيَّ جُودا وَلا تَجمُدا
أَلا تَبكِيانِ لِصَخرِ النَدى
أَلا تَبكِيانِ الجَريءَ الجَميلَ
أَلا تَبكِيانِ الفَتى السَيِّدا
طَويلَ النِجادِ رَفيعَ العِمادِ
سادَ عَشيرَتَهُ أَمرَدا
إِذا القَومُ مَدّوا بِأَيديهِمِ
إِلى المَجدِ مَدَّ إِلَيهِ يَدا
فَنالَ الَّذي فَوقَ أَيديهِمِ
مِنَ المَجدِ ثُمَّ مَضى مُصعِدا

حادثة مرض صخر ووفاته

كان صخر من أسياد الوغى الذين لا يُبارى بأسهم ولا يُدانى نزالهم، وهو ما أكده حادث طعنِه في معركة مع بني أسد في موضع يُدعى “ذات الأثل”. فرغم قلة عدد بني سليم، دافع صخر ببسالة حتى باغته أبو ثور الأسدي بطعنة في جنبه. ورغم جروحه، لم ينهزم على الفور، لكنه مرض عامًا كاملاً من أثر تلك الطعنة.

خلال فترة مرضه، كانت والدته تزوره باستمرار وتُظهر له الحب والاهتمام، قائلةً دائمًا: “نحن بخير ما رأيناه، وإني لأرجو له العافية”. أما زوجته، فقد أظهرت نفورًا وضجرًا منه، واشتكت لحالها قائلة: “لا حيٌّ فيُرجى ولا ميّتٌ فيُنسى”. وقد سمعها صخر وهو على فراش مرضه، فأنشد أبياتًا يعبر فيها عن الفرق بين حنان والدته وجفاء زوجته:

أرى أُمَّ صَخرٍ لا تَمَلُّ عيادتي
ومَلَّتْ سُلَيمى مضجعي ومكاني
وأيُّ امرئٍ ساوى بأُمٍّ حليلةً
فلا عاشَ إلا في شقاءٍ وهوانِ

اشتد البلاء على صخر مع مرور الأيام، وظهرت قطعة لحم بحجم الكف في موضع الطعنة. فاقترح عليه البعض أن يقطعها، لعل ذلك يخفف ألمه. استجاب صخر وقال: “الموت أهون عليَّ مما أنا فيه”. فأحموا له شفرة وقطعوا تلك القطعة. لكنه أدرك بعد ذلك أنه لن ينجو، فأسلم الروح بعد معاناة طويلة.

استمر ذكر صخر خالدًا في قصائد الخنساء، التي حولت ألمها الشخصي إلى شعرٍ بليغٍ أبهر العرب قديمًا ولا يزال يُدرس حتى اليوم. ورغم عظمة شعرها، إلا أن الخنساء لم تقتصر على كونها شاعرة، بل آمنت بالرسالة الإسلامية وأصبحت من الصحابيات الجليلات، رضي الله عنها وأرضاها.

شارك

مقالات ذات صلة