سياسة

هل مصر على شفير انفجار؟

يناير 17, 2025

هل مصر على شفير انفجار؟

ما حدث في تأهيل ٦ بسجن العاشر من رمضان من قبل المحبوسين احتياطيا على ذمة التحقيقات والذين يُجدد لهم الحبس تلقائيا بشكل يبدو لانهائي، من الإضراب الرمزي عن الطعام وإدارة الظهر للكاميرات رفضا لحضور الجلسات المصورة عن بعد لتجديد شبه آلي الحبس الاحتياطي، يتشابه مع مايحدث في حي الوراق والمحاولات العنيفة للتهجير القسري لسكان الجزيرة رميًا بالمخالفة للدستور عرض الحائط، لاستغلال المكان لأحد المشروعات الجديدة مع الشركاء الإقليميين الجدد، بغرض التطبيع مع خطط جديدة تُرسم للمنطقة، سيتضح دور مصر فيها خلال أسابيع أو لربما أيام. الأمران شبيهان بحالة الاعتقال لكل من أدلى برأي أو بحث أو لقاء صحفي أو حتى همس لم يعجب هذه السلطة كالتحقيق الجديد التي استدعي له الزميل الصحفي رئيس المبادرة المصرية لحقوق الإنسان حسام بهجت بعد أن انتقد ما انتقدناه جميعا لتصريحات أخيرة للسفيرة الجديدة للاتحاد الأوروبي عما وصفته بالإنجازات الديمقراطية في مصر؛ كيف نجرؤ نحن أو حسام بأنه لا إنجازات ولا ديمقراطية في مصر؟!

 

أخيرا وقد تبدو مجرد متسلسلات، تجري بالتوازي إضرابات تبدو صغيرة بالنسبة لحجم الدولة والآلة الاستثمارية المتوحشة فيها قياسا بمشاريعها الضخمة، أعني الإضرابات العمالية في وبريات سمنود أو حبس أهالي سيناء المطالبين بحق العودة إلى ديارهم في المثلث الذي أخلاه الجيش إبان حربه على تنظيم ولاية سيناء، أو إضرابات المحلة للغزل والنسج أو فزع السلطة من أي تجمعات كتحرير التوكيلات الرسمية أو الشعبية لمرشح يعلم الرئيس الحالي أنه سينجح مكتسحا في انتخابات رئاسية نزيهة أو التحسس من حركة طلاب من أجل فلسطين فيقبض عليهم جميعا، رغم تحريض السلطة قبلها بيوم واحد، بما يشي بقبول هذه الصرخة الأصيلة لفلسطين، ثم صراع الأجنحة فور أن تحولت إلى صيحات، لأن الطلاب وغيرهم على سلم نقابة الصحفيين يقفون حقيقة من أجل فلسطين ولم يفوضوا أحدا فينقض عليهم جهاز الأمن الوطني سيء السمعة.

 

أضع هذه الأحداث تزامنيًا جنبا إلى جنب، لأسأل مجددا هل مصر على شفير ثورة؟ أو انتفاضة وشيكة؟ أقول على الأرجح نعم لأسباب موضوعية خالية من التمني أو الرهاب وإلى حضراتكم السياق الموضوعي:

 

كلمتان في كتاب التاريخ

كتبت منذ يومين عن مقدمة عبقرية لكتاب شديد الدسامة، عن الحركات الاجتماعية، سواء التراكمية العفوية (الانتفاضة) أو المركبة الدفع (انتفاضة اكتملت إلى الثورة) للكاتبين دوناتيلا ديلا بورتا وماريو دياني. في أقل من ستة أسطر قدما للكتاب الدسم بأن عشرية الستينيات شهدت: اكتمال نضال حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة والحركة المناهضة للحرب في فيتنام، الثورة في فرنسا عام ١٩٦٨، مظاهرات الطلاب في ألمانيا وبريطانيا، وحراك اتحاد الطلاب والعمال في المكسيك عام ١٩٦٩، والخريف الساخن في إيطاليا في العام ذاته، الحراك الكبير لدعاة الديمقراطية في مناطق كبراج الشيوعية، ونماء الكاثوليكية النقدية وانتقالها من أمريكا الجنوبية كالنار في الهشيم لروما، كما نضجت الحركتان النسوية والبيئية ومهدت لإنجازات يعتد بها في نهاية الستينيات ممهدة للسبعينيات.

لو نظرتم إلى كل هذه الإنجازات تجدون أن ما نمر به الآن على الأرجح يؤرخ له بكلمتين في سطر مهما بلغنا به من سنوات ونضال وإنجاز. من ثم علينا أن نفكر جيدا ماذا نقدم الآن لحركة التاريخ. خصوصا في مصر، المثقال الوازن لمعيار التاريخ في الشرق الأوسط والكفة الأرجح في رسم توازنات المنطقة.

 

أربعة أسئلة مركبة قبل الإجابة

 

لنحلل ماهية أي حراك مقبل بشكل موضوعي، يضع الكاتبان في كتابهما عن الحركات الاجتماعية معايير يتعين أن نُخضع لها الأحداث المتزامنة في بلد كمصر عميق التطورات، والغليان فيه يوشك على الانفجار:

 

أولًا) ماهية العلاقة بين التغيير البنيوي والتحول في أنماط الصراع الاجتماعي. بمعنى هل نرى أن انتفاضة قادمة تعبيرٌ عن صراع كامن طبقي مثلا نتيجة الفجوة الهائلة في المداخيل بين السلطة وبطانتها وبين الشعب؟ أي نوع من الصراع؟ هل هناك تغيير ما حدث أو سيحدث نتيجة للصراع؟ سلمي؟ أم انقلابي؟ هل السلطة الحالية شرعية؟ إلى آخره.

 

ثانيًا) ماهية الأدوار الممثلة للثقافات المختلفة في الثورة الاجتماعية لا السياسية فقط؟ بمعنى بماذا تعرف المشكلات الاجتماعية التي ستؤدي إلى مطالب جماعية تتراكم حتى لانفجار؟ على سبيل المثال لو كان للعمال أو الموظفين الحكوميين أو الأسر محدودة الدخل أو الفئات الدنيا من المؤسسة العسكرية أو الشرطية وقد رأينا ذلك في ثورة الخامس والعشرين من يناير، فمن سيمثلهم وكيف سيتوحد خطابهم ومم تتكون مطالبهم الاجتماعية وليس الاقتصادية فقط بالنظر إلى أن الطبقة المتوسطة والبورجوازية عدا النخبة الأوتوقراطية العليا وهي فقط ما تبقى من الطبقة الوسطى التقليدية وهي نخبة لا تتمتع بالضرورة بالتطلعات الطبقية الكلاسيكية لأنها في أعلى هرم الطبقات الاجتماعية المحلية في الدولة.

 

ثالثًا) ما المظلة أو الحاضنة التي تستوعب المعضلات أو  تراتب العملية والأولويات والتي تموج في بوتقتها عمليةُ الصراع الطبقي أو الجندري أو السياسي قيميًا أو أخلاقيًا أو مصلحيًا بحيث تتراكم وتشكل العجين الفوار الموشك على الانفجار؟ بشكل أدق، أين الحاضنة التي تُنضِجُ هذه الانتفاضة وعلى أي مستوى شعبي؟

 

رابعًا وأخيرًا) ما طبيعة السياق الذي يحيط بالفوران الحادث في قلبه؟  هل هو مستعد أو مهيأٌ لهذا التغيير؟ وهل يؤثر ذلك على فرص نجاحه؟ ما حجم العداء الذي سيناصبه هذا المناخ أو السياق للانتفاضة القادمة؟ وما عداء الانفجار نفسه للسياق وهل المناخ نفسه عاملٌ أو سببٌ في انفجاره؟ مالذي في هذا السياق يحدد مدى الزخم في الانفجار أو الانتفاضة أو عنفها لو تطورت الأمور نحو العنف على قدر ما تحمل من غضب (محور أفقي) لفترة طويلة من الزمن (محور رأسي)

 

الحكم الأوتوقراطي والفقراء في مصر

 

الفقراء والحكم النيوليبرالي كالزيت والماء، لا يمتزجان أبدا. حقبة الثمانينيات شهدت في مصر تجريفا لسياسات الإنماء المستدام بالإصرار على الخصخصة الوحشية للقطاع العام، وبما أن الشيء بالشيء يذكر فأحد أبطال تلك المعركة حبيس هذه الأيام وللتو باغتته أزمة قلبية ثالثة في محبسه، وقد وقف كالليث لبيع شركة عمر افندي في تلك الحقبة فريدا مضحيا بالوظيفة الكبرى والأمن الوظيفي والحياة الرغدة، المهندس يحيى حسين عبد الهادي، الذي قال لا في وجه كل من قالوا نعم.

 

إعادة بناء العقد الاجتماعي بعد فكه وهيكلة سياسات النيوليبرالية أو بالأحري الإمبريالية الأمريكية الغربية في الشرق الأوسط، أفضت إلى هدم مصر مشاريعَها الصناعية وصروحَها الحكومية في القطاعات غير الاستهلاكية وأكملت ما أتي على مجمله الانفتاح. كانت مصر الثمانينيات تقدم مستوى (نسبيًا) معقولًا في حقوق المواطن الأساسية في الصحة والتعليم مقارنة باليوم، لكن بداية الانحدار أتت حين غادر المواطن الخدمات الصحية والتوعوية ولجأ للجمعيات والمساجد والرعاية الأهلية، وهو ما فقده الآن بعد اجتثاث الدولة الحالية لكل مظاهر وخوافي العمل الأهلي والمدني والفضاءات المُعينة للدولة، فضلا عن الإهمال الكامل لأي خدمة للمواطن في الصحة والتعليم والتنمية المستدامة. انفرط العقد الاجتماعي تماما بين هذه الدولة وهذا المواطن. الطبيعة السلطوية للسلطة الحالية قضت تماما على أي مشاركة سياسية أو اجتماعية حقيقية لا من المواطن ولا من المجتمع المدني.

 

الموالاة والموالاة فقط هي خط الحماية النسبي واللا مضمون. حتى الموالون تماما، يدركون كامل الإدراك أنهم إذا انشقوا هلكوا وإذا انتهى دورهم هلكوا، ولأي سبب إذا أراد النظام بهم هلاكا فلا منجى لهم. رفعُ الدعم عن السلع الأساسية والخدمية للمواطنين، رفع أسعار كل الخدمات والمواصلات والخبز والوقود وغيرها لن تولد إلا احتقانًا، خاصة في ضوء الإعلانات المستفزة عن البوتقات المعمارية الفاصلة تمامًا بين الطبقات الاجتماعية والفيلات الفاخرة، بالملايين والمعونات والقروض بالمليارات والقصور الرئاسية باهظة التكلفة رخيصة الذوق. كل ذلك لم ولن يرى المواطن منه شيئًا. يشعر به فوق أكتافه ضرائب وحرمانا وعبئا يُطلب منه أن يرزح تحته في صمت تام، دون حتى أن يئن. إذا أنّ تحته فويلٌ له. نحاول سد خدمة الدين فيستحيل أن نسدد كل الديون يستحيل، السلطة تعلم، والمواطن يعلم، والجو يختنق باليأس، حتى من حاولوا غرس الأمل حبسوهم.

 

الترهيب الدائم من الاقتراب من أي مؤسسة غير تابعة إما للقوات المسلحة أو تابعة للجمهورية “الجديدة”، في إعلام تحول بكامله إلى البروباجندا الستالينية، أو تلك التي أسسها كيم جونج أون في كوريا الشمالية، لخدمة النظام، يخوّن الجميع ويهدد الجميع ويحرض على الجميع. الفقراء في مصر وكلنا منهم لم يعد لهم أحد سوى الله، والانفجار القادم.

 

الخلاصة أن كثيرًا من المراجعات الاجتماعية سُحبت أو شُلّت تحت شروط الاقتراض التي لن تنتهي. تسميها مؤسسات الإقراض ”إصلاحات“ وإعادة هيكلة، بينما هي في الواقع لا تؤدي إلا إلى محو كامل للطبقة الوسطى، وسحق مزدوج للطبقات الكادحة وتقديم ما يسمى العمالة الرخيصة، لقطاعات الاستثمار العولمي الغربي النيوليبرالي. وعلى الفقراء أن يعتمدوا على اللاشيء، تظل البوتقة تغلى حتى تنفجر وستنفجر.

 

في الجزء الثاني والمتم لهذا المقال، أكتب إن عشنا عن الانفجار وما يُحاك له، والفارق بين أي انفجار بشري قادم في مصر وثورة الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١.

 

شارك

مقالات ذات صلة