تأملات

ماذا يعني أن تتوقف الحرب؟

يناير 17, 2025

ماذا يعني أن تتوقف الحرب؟

يعني أن تكتشف في اللحظةِ نفسها من توقف الحرب أنك كنت الإنسان المنسيّ ل466 يوماً، الإنسان المُجرّد من آدميتك فقط لأنّك تتواجد في غزة، وأقصد بوجودك أي مجرّد أنّك تتنفس الهواء، تجلس على شاطئ البحر، تحمل ميدالية مفاتيح على شكل قبة الصخرة، ترتدي قلادة على شكل خارطة فلسطين، ترقص الدبكة الفلسطينية وقد تزنّر خصرك بالكوفية، تسمّى المحلات التجارية ب( يافا، بيسان، عكا) والشارع الرئيسي في منطقتك ب( صلاح الدين)، تغنّي في لحظة زهو عالية ( يا زريف الطول وقف تقلك، رايح عالغربة بلادك أحسنلك)، ترسم على واجهة أجندة غالية على قلبك في بداية كل عام (حنظلة)، وحين يأخذون لك صورة في أي مناسبة كانت حتى ولو كنت فيها عريسا واقفا في مراسم زواجك، ترفع إشارة النصر بإصبعيك) أنت كإنسان طبيعي يمارس وجوده بهوّيته التي اختارها الله عز وجل له، لا تخدم مصالح الشرق الأوسط، في نظر العالم بأسره.

 

إذاً أنت تخدم مصالح مَنْ؟

إنّك تخدم خُطّة الغَيب الإلهي

 

قصّةٌ عجيبة جداً، لكن أعجبتني للغاية، وقد فتحت لي أبواباً جديدة للفهم، والتأمل في مفهوم النيّة والتهيئة، فتجلّي (كن فيكون) هو تجلٍّ إلهيّ مطلق في الأشياء، لكن لتستشعر معناها وتبصرها عليك أن تخوض معركة وجودية حقيقية في التزكية والسعي، لتصبح مشاهدة قلبك لِ (كن فيكون) الآنية نتيجة رحلتك الخاصة عبر (ليس للإنسان إلا ما سعى).

وسعي الإنسان له طريقان، إمّا أن يكون سعياً في طريق الله أو سعياً في طريق الشيطان، وكيف يكتشف الإنسان وجوده في أي طريق، حينما يسأل نفسه ما الهدف من وجودي وقيامي بهذا الأمر؟ ما نيّتي من ورائه؟

تقول القصّة وهي لنجم الدين أيوب (أمير تكريت) بأنه نوى أن يعزف عن الزواج، لأنّ النساء لا يصلحن له، فهو يريد الزواج من امرأة لتنجب له ولداً حين يكبر يفتح بيت المقدس.

وقد أخلص نيته في قلبه لله وقد طابق عمله نيته، فقد كان يرفض كل النساء اللواتي تُعْرض عليه من ذوات مناصب وجمال ومال، إذاً هو لم ينوِ فقط، بل سعى من أجل نيته وجاهد كل تلك المغريات فصدّق العمل الإيمان، في ذلك الوقت كانت هنالك امرأة جميلة أيضاً ولكنها ترفض كل الرجال لأنهم على حد قولها لا يصلحون لها، فهي تريد أن تتزوج رجلاً تنجب منه ولداً حين يكبر يفتح بيت المقدس

ويبدو أن (ست الملك خاتون) كانت صادقة النية وقد وافق سعيها نيتها فعملت بالسعي وجاهدت هواها ليكون لها سعيها

لتدور الأيام ويضبط الله توقيتا عظيما ليتقابل (نجم الدين وست الملك) وأعني بذلك اللقاء هو تجلّي (كن فيكون) لله عزوجل على دقائق كونه، ويكون نجم الدين جالساً في المسجد فتأتي امرأة تكلم الشيخ من وراء حجاب وتقول له أعتذر منك أيها الشيخ رفضت العريس الذي ارسلته لي، فسألها الشيخ: لماذا رفضتِه؟، قالت: لا يصلح لي، فسألها وماذا تريدين؟

أجابته: أريد رجلا أنجب منه ولداً حين يكبر يفتح بيت المقدس، ليسمع نجم الدين ذلك الحوار وتلتمع عيناه بالدهشة وقلبه بالحب ويتزوج نجم الدين أيوب من ست الملك خاتون وينجبان صلاح الدين الأيوبي فاتح القدس حقاً.

 

لن نسمع صوت القصف بالتأكيد في الصباحات القادمة، وهذه رحمة عظيمة من رب عظيم، لكن مليونَيّ غزاوي يتحسسون مواضع الجرح في قلوبهم وذكرياتهم، ويتذكرون أنّ هذه الأيام ليست سهلة، وأنّ ثأراً عظيماً سيتصاعد في مرادنا الشخصيّ وإن لم ندرك ذلك في اللحظة الآنية، لكن كلّ فلسطيني يعرف تماماً أنّ الصراع أزليّ حتى الفتح المبين، ليس كشفاً للغيب، ولكنّه الوعد الإلهي، وإذا وعد الله أنجز، ولكنها مواقيته يجريها متى ما أراد في الوقت الذي يريد.

 

كانت ليالي قاسية جداً، كنت أقول فيها، نحن في عذابٍ شديد، ولكننا أيضاً في خصوصية شديدة، إننا نرابط على عمل الطاعة وهذا جهاد عظيم، ونرابط على الأرض ضد الاحتلال وهذا جهاد عظيم، ونرابط على اليقين بالله عز وجل رغم زوال أسباب الفرج وضيق الحال وهذا جهاد أعظم، وقد شهدنا في رباطنا هذا أحوالا كثيرة مع الله عز وجل، فقد كان رمضان من أصعب الشهور، تصوم ثم لا تجد ما تفطره، ولكنك تصوم، قاصداً بذلك أن يرضى الله عنك، لا يوجد وسيلة لتدفئة الماء، والماء كالثلج، وجسمك متعب مرتجف، لكنّك تتوضأ بالماء البارد من أجل أن تصلّي. تدفن عائلتك في فناء المنزل، وتصلي عليهم وحدك، لا يمكن لأحد في العالم أن يتحمل ذلك، تصلي عليهم لأنه أمر الله، وتدفنهم لأنه أمر الله أيضاً، ورغم كل لوعة الكون في روحك تسترجع الله بهم وتحمده لأنك تخاف ألا يكتبك الله صابرا في لحظة اختبار عظيمة كهذه، والكثير الكثير..

قصص لا يستطيع كتابتها سوى أهل غزّة الذين أدركوا علم الله عز وجل في ثباتهم الأسطوري، ولم يكتفوا أنهم عَلِمُوه عن الله بل عَلّموه أيضاً للعالم.

 

 

ما بعد الحرب ليس كقبلها

 

قبل الحرب كنتَ إنساناً عادياً تفهم الصبر في دائرة تفكيرك البسيطة أن تصبر على خدش في بدلتك الأنيقة، عطل في سيارتك الخاصة، مسبّة وصلتك من أحد أقاربك، عدم حصولك على ترقية، خسارتك لوظيفة كنت تحبّ أن تحصل عليها.

 

بعد الحرب، تفهم ماذا يعني (أولو العزم من الرسل) وتبدأ تدرك كيف يبلغ الأنبياء مقاماتهم بالصبر، وكيف كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الأحب إلى ربّه والأكثر صبراً أيضاً، تدرك أنّ هنالك في الحياة صبرَين (صبرًا دنيويًا) و (صبرًا أخرويًا).

 

الصبر الدنيويّ هو أنّكَ تصبر من أجل الدنيا، تصبر على العطل الذي أصاب سيارتك الخاصة لأنك تريد تبديلها لسيارة أحدث.. وهكذا تكتشف أن صبرك كان يدور في دائرة الصبر الدنيويّ

ثم فجأة تجد نفسك أمام اختبار عظيم آخر، لم تكن تعلم فلسفته أو كنت تظنّ بأنّك بعيدٌ عنه وهو (الصبر الأخرويّ) أي أن تصبر من أجل الآخرة، وهذه هبة الله لعباده، ومدده من الوهّاب ففي الحديث الشريف “ومن يتصبر يُصبره الله”.

 

تتغيّر المجريات بنظرك، تعرف أنّ كل نَفَسٍ تتنفسه هو بأمر الله، كنت تعرف ذلك، لكنك لم تكن تتدبره، لم تكن تقف على معناه الوجوديّ، بأنّ أنفاسك وألحاظك وسكناتك وحركاتك كلها بأمر الله، تكتشف ذلك حين تنجو من غارة جويّة، وقد كان بينك وبينها فقط نصف شارع، وأنّ خطوتك التي أسرعت قليلاً بأمر الله لتدخل شارعاً فرعياً كانت سبباً في نجاتك.

ومرّة أخرى نجوت من رصاصة طائشة، لأنك كنت جالساً فمرّت من فوقك دون أن تصيبك ولو كنت واقفاً لأصابتك،

وتتذكر أنّك كنت قبل الحرب تأكل كل ما تشتهيه بسهولة ويسر وأحياناً لا تشبع، ثم في الحرب كنت تأكل قليلاً وحين لا تأكل ما تشتهي لا تتذمر تأدباً مع اختبار الله عز وجل لك.

 

لذلك ما بعد الحرب ليس كقبلها أقصد في فهمك لكلّ شيء، إنّ التفاصيل التي تدور فيك وحولك لم تعد لتراها بعينك القديمة، إنّك تراها الآن بعين الله عزّ وجلّ، ولو لم يكن للحرب من منحة سوى أنّها مسحت غبار الدنيا عن بصائرنا لكفاها.

 

والحمد لله أن أَذِنَ بأن يكون رجب الأصبّ رجب الخير والأمان على أهل غزة وفلسطين كلها، فألف مبارك شهر رجب يا أهل فلسطين الجميلة.

شارك

مقالات ذات صلة