مدونات
الكاتب: أيمن عمر
في أعماق شبه الجزيرة العربية، تتفاقم أزمة إنسانية غير مسبوقة في اليمن، بينما يعاني البلد من صراعات متعددة المستويات بين الفقر المدقع، والجوع المستشري، والتنافسات الداخلية المسلحة، والتدخلات الخارجية. بعيدًا عن جغرافيا هذه الأحداث، يبرز تساؤل بالغ الأهمية: كيف يتعامل الإعلام الدولي مع هذه الأزمة المركبة؟ وما هو الدور الذي يلعبه في تشكيل الوعي العالمي تجاه ما يحدث في اليمن؟ وكيف يمكن إصلاح أوجه القصور في هذه التغطية الإعلامية بما يمنح الأزمة اليمنية مكانها المستحق في الفضاء العام الدولي؟ أزمة بعيدة عن الأضواء منذ اندلاع الأزمة اليمنية، كانت ولا تزال البلاد مسرحًا لصراعات متشابكة، إلا أن الاهتمام الإعلامي الدولي بها لا يُضاهي الاهتمام الذي تحظى به صراعات أخرى كالأزمة السورية أو الأوكرانية.
هذا الفارق في التغطية الإعلامية يمكن عزوه إلى عدة عوامل، منها التوزيع غير المتكافئ للموارد الإعلامية وتفضيل المؤسسات الإعلامية الكبرى التركيز على النزاعات التي تمس مباشرة مصالح الدول الكبرى. الأزمة اليمنية، في المقابل، تُعتبر على ما يبدو “غير ذات صلة” بالمصالح الدولية الرئيسية، وهو ما يساهم في تهميشها وإبقائها خارج دائرة الضوء. إن هذا الإهمال الإعلامي يحمل تداعيات خطيرة على مستوى الوعي العام العالمي؛ إذ يُحرم الشعب اليمني من الاهتمام الدولي والنقاشات العامة، مما يُضعف الجهود الإنسانية ويحول دون تعبئة الموارد المالية والإغاثية الضرورية لوقف التدهور المستمر في الوضع المعيشي والصحي.
إن الإهمال الإعلامي لهذه الأزمة يعكس غياب العدالة في التغطية الإعلامية للأزمات الإنسانية، ويحول اليمن إلى أزمة منسية، حيث المعاناة تستمر دون أن يُلاحظها أحد.
من الجدير بالذكر أن للإعلام دورًا مركزيًا في تشكيل سياسات الحكومات والمؤسسات الإنسانية تجاه الأزمات. غياب التغطية العميقة لأزمة اليمن يعني أن هذه القضية تُعامَل كمشكلة ثانوية، وبالتالي يُغفل حقوق الملايين من اليمنيين الذين يعانون من نقص الغذاء والماء والرعاية الصحية. الإعلام هو الحافز الأول لخلق وعي دولي وضغط جماهيري يمكن أن يترجم إلى إجراءات حقيقية.
التغطية النمطية
عند تحليل نوعية التغطية الإعلامية للأزمة اليمنية، نلاحظ أن السرد الإعلامي السائد يتسم بالسطحية والاختزال. غالبًا ما تُختزل الأزمة في تقارير مقتضبة تتناول الضربات الجوية أو أعداد الضحايا، متجاهلة السياقات المعقدة والمتعددة الأبعاد للصراع. هذا النوع من التغطية يجعل من الأزمة اليمنية مجموعة من الأرقام والإحصائيات الجافة، مما يفقدها عمقها الإنساني ويحولها إلى حدثٍ عابر في نظر الجمهور.
فضلاً عن السطحية، هناك انحياز واضح في التغطية الإعلامية نحو الأطراف التي تحظى بدعم القوى الكبرى، مما يؤدي إلى تهميش الأطراف الأخرى الفاعلة في النزاع. هذا الانحياز يسهم في تشكيل صورة مشوهة وغير مكتملة عن الأزمة، ويغذي تصورات غير دقيقة تُبسط الصراع وتعزله عن تعقيداته السياسية والاجتماعية. في نهاية المطاف، يصبح الجمهور الدولي ضحية السردية قاصرة وغير متوازنة.
المطلوب هو تغطية إعلامية متعمقة تشمل تحليلًا دقيقًا للعوامل التاريخية والسياسية والاجتماعية الكامنة وراء الصراع. يجب أن تستند التقارير إلى شهادات ميدانية وأصوات من داخل اليمن، مما يُضفي على التغطية بعدًا إنسانيًا وواقعيًا. على الإعلام أن ينتقل من مجرد سرد الأحداث إلى تفسيرها وربطها بالسياقات الأوسع، وهو ما يفتقر إليه في الوضع الحالي.
الأزمة في سياقها التاريخي والمعرفي البحث في الجذور العميقة لفهم الأزمة اليمنية بشكل متكامل، يجب وضعها في سياقها التاريخي والاجتماعي. اليمن دولة ذات تاريخ طويل من التوتر بين المركزية والتفكك، وهو تاريخ أثر بعمق في مسار الأحداث الراهنة. لذلك، الفهم التاريخي للتغيرات التي مرت بها اليمن، بدءًا من حكم الإمامة مرورًا بالتحول إلى الجمهورية، وما أعقب ذلك من تدخلات إقليمية، هو عنصر أساسي لفهم التعقيدات الحالية.
الإعلام الدولي في معظمه يغفل هذا البعد التاريخي المهم ويكتفي بسرد مقتطفات من الأحداث دون ربطها بخلفياتها السياسية والاجتماعية. بينما يعد السياق التاريخي والمعرفي أمرًا حاسمًا لتفسير الأسباب الجذرية للصراع. إن النظر إلى طبيعة العلاقات القبلية، وتأثير التحالفات الإقليمية، والدوافع الاقتصادية الكامنة وراء سيطرة الأطراف المتصارعة على المناطق المختلفة، كلها جوانب حاسمة لفهم طبيعة الأزمة وتقديم تحليلات أكثر دقة وواقعية.
يمكن أيضًا تسليط الضوء على الأدوار التي لعبتها القوى الإقليمية والدولية عبر العقود، وكيف أن السياسات الخارجية الخاطئة أسهمت في وصول اليمن إلى هذا الوضع المتأزم. الأزمة اليمنية هي نتاج لعقود من التوترات والتدخلات، وسرد هذه الجوانب بتفصيل أكبر يمكن أن يساعد في تقديم صورة أوضح وأكثر شمولية.
مقارنة التغطيات من أجل فهم كيفية تناول الإعلام الدولي للأزمة اليمنية، يمكن مقارنة هذه التغطية بتغطية أزمات أخرى مثل الأزمة السورية أو الأوكرانية. شهدت تلك الأزمات تدفقًا هائلًا للمراسلين الميدانيين، وتحليلات معمقة ربطت الأحداث بالسياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأوسع. بينما في اليمن، نجد ندرة واضحة في التغطيات المتعمقة والتحليلات التي تبرز التداعيات الإنسانية. يمكن تفسير هذا التفاوت جزئيًا من خلال تعقيد الصراع اليمني الذي يضم أطرافًا متعددة ذات أجندات متداخلة، مما يجعل تقديم سردية واحدة أمرًا بالغ الصعوبة. على النقيض من ذلك، تكون الأزمات الأخرى أكثر وضوحًا من حيث الأطراف المعنية والأهداف، مما يجعلها أكثر جذبًا للإعلام. هذا لا يعني أن الأزمة اليمنية أقل أهمية، بل يشير إلى أن الإعلام بحاجة لتقديم سردية تتناول هذه التعقيدات بشكل صريح، وتساعد الجمهور على فهم الجوانب المتعددة للصراع.
الإعلام الغربي يفضل عادةً السرديات البسيطة: “الخير ضد الشر”، أو “الديمقراطية ضد الاستبداد”، وهي سرديات يصعب إسقاطها على الحالة اليمنية المعقدة، التي تتضمن طبقات متعددة من العلاقات القبلية، والتدخلات الإقليمية والدولية. لذا، على وسائل الإعلام أن تخرج من هذا القالب التبسيطي وتعمل على تقديم تغطية أكثر دقة وعمقًا، تعكس التعقيد الحقيقي للوضع اليمني.
التداعيات الإنسانية: الغياب المدمر للأصوات المحلية من أبرز نقاط الضعف في التغطية الإعلامية للأزمة اليمنية هو التجاهل شبه التام للأصوات المحلية. غالبًا ما تُنقل الأحداث من وجهة نظر المراسلين الأجانب أو الوكالات الإخبارية الكبرى، بينما يتم تهميش الأصوات اليمنية الحقيقية التي تعكس التجربة الإنسانية من قلب المأساة. هذا الأسلوب يؤدي إلى إفقاد الأزمة بعدها الإنساني، ويمنع الجمهور الدولي من التواصل العاطفي مع الواقع اليمني.
إبراز القصص الشخصية، وتسليط الضوء على الشهادات المباشرة من داخل اليمن، من شأنه أن يخلق رابطًا إنسانيًا مباشرًا بين الأزمة والجمهور العالمي. هذا الرابط يمكن أن يكون قوة دافعة لجذب الدعم وتعبئة الجهود الدولية من أجل تحسين الأوضاع. ينبغي على الإعلام الدولي إعطاء الأولوية للتجارب الفردية والشهادات الميدانية التي تسلط الضوء على كيفية تأثير النزاع على الحياة اليومية. كما يمكن أن تساهم هذه الشهادات في فهم كيف تؤثر القرارات السياسية الكبرى على المستوى الشخصي، مما يعزز التعاطف ويدفع الجمهور العالمي للضغط على صناع القرار من أجل اتخاذ إجراءات حقيقية. هذه القصص الشخصية هي المفتاح لإضفاء الطابع الإنساني على الأزمة، وهو ما يُعد خطوة ضرورية لجعل اليمن في قلب النقاش العالمي.
الإعلام ومسؤوليته تجاه اليمن
في الختام، يكشف تحليل التغطية الإعلامية للأزمة اليمنية عن تجاهل ملحوظ لهذه الأزمة الإنسانية سواء من حيث الكم أو الكيف. يتوجب على وسائل الإعلام الدولية أن تتحمل مسؤوليتها تجاه تقديم تغطية عادلة ومعمقة للأزمة اليمنية، تُسهم في وضع الأحداث ضمن سياقاتها التاريخية والاجتماعية والسياسية، وتُعطي الأصوات المحلية المساحة التي تستحقها.
تحقيق تغيير حقيقي في اليمن يبدأ من تسليط الضوء على المعاناة الإنسانية للشعب اليمني، وهو دور لا غنى عنه للإعلام. إن تجاهل الأزمة يعني استمرار المعاناة، ولذا يجب على المجتمع الدولي، بما في ذلك وسائل الإعلام، أن يجعل اليمن محور النقاش العالمي لضمان وصول الدعم والمساعدة إلى الشعب اليمني الذي لا يزال يعاني تحت ثقل صراعاته المنسية.
الإعلام يجب أن يتبنى نهجًا جديدًا في التغطية، أكثر شمولية وإنسانية، يركز على سرد القصص الشخصية ويربطها بالسياقات السياسية والاجتماعية الأوسع. هذا النهج لا يُسهم فقط في تغيير النظرة العالمية للأزمة، بل يساعد أيضًا في خلق زخم حقيقي يمكن أن يدفع الحكومات والمؤسسات الإنسانية للتحرك. اليمن ليس أزمة منسية، بل هو أزمة إنسانية تستحق الاهتمام والعمل العاجل من الجميع، والإعلام هو المفتاح لتحقيق هذا التغيير.