آراء

هل دخلت أمريكا مبكرا إلى الجحيم؟

يناير 12, 2025

هل دخلت أمريكا مبكرا إلى الجحيم؟


في كل مساء كان قلبي يحترق، أتضور جوعًا، أتقلب في فراشي، ويجف حلقي، بينما أتصور البيت مشتعلا، تحفه النيران من كل اتجاه، وأنا مسجون داخله، تتآكل نفسي، وأرى غزةً كبيرة، تفتح هوةً في غرف القلب، وتُساقط لحم الصدر، وفصوص الذاكرة، النار تأكل كل قطعةٍ مني، تتلظى ألسنة اللهب في وجداني، تتسابق على من يبلغ قامةً أعلى، من يهد شرفةً جديدة، من يطمس ذكرى للأبد، آتآكل وأنا “أشاهد” المحرقة، أنا شاهد بعيد، ولستُ أنا المحترق فيها بأي شكل، لا تمس الحرارة جلدي، ولا تصهر السخونة ملامحي، ولا يبلغ الدخان أنفي، ولا تسكن الرائحة رئتيّ.


كأنها خندق كبير، كأنها أخدود هائل، كأنها نار إبراهيم، مليونا شخص في حفرة واحدة، تخيل كم حطبة سيجمعون، كم عود ثقاب سيشعلون، كم برميل نفط سيغرقون به الأرض المنخفضة، كم مئة سنة سيحفرون لتبتلع المقبرة ما عليها، بالحر والنار، لكنهم لاختصار ذلك كله لم يحفروا حفرةً في الأرض، وإنما أسقطوا الحفرة من السماء، في الجوّ رتبوا المسألة، طيّروا المقاتلات، حركوا أسراب الطائرات، ووجهوا الكواد كابتر، وزرعوا البراميل المتفجرة بين السحاب، ثم أسقطوا ذلك جميعا فوق بقعة واحدة مركزة مكثفة، تحولت المدينة إلى وادٍ، وتحول الناس إلى بقايا أناس، وتطاير الرماد في كل زاوية، هتف الأهالي نحن نحترق، فسارع فتوات الجيران بجلب دلاء المياه، ثم شربوها جميعا.


جلب العدو كل آلات حرق الأحياء، كل آليات إحراق الجثث، ومدته أمريكا بما تملك، واخترعت له ما لا تملك، من أجل إكمال المهمة المقدسة، في سلخ غزة عن أهلها، وسلخ المحيط عن غزة، وسلخ الإنسانية عن الإنسان، فانفرد المحتل بالفريسة، وأخذ يشعل فيها ذرةً ذرةً خليةً خلية، وواشنطن مستغرقة في الضحك، الناس يصرخون، يستصرخون، تحترق بهم الخيام، تفتئد بهم النيران، والجيران يتفرجون على حفل شواء عبر البث المباشر، ولو كانوا كبابًا لأشفقوا عليه، لخشيوا أن يحال إلى سواد قاتم مسرطن، لكنهم ليسوا دجاجا ولا نوقا، وإنما بشر مدججون بالإيمان لا أكثر، عزّل مما سواه، إلا من قطع سلاح بالية لا تصنع الكثير إلا بقدرة الله وقوته، فتُركت غزة، وباركت أمريكا، ورضي ربهم الأكبر في واشنطن، وصدّق شيطانهم الأكبر في بلاد العرب، ومضت غزة تتنفس الجحيم، وهي الفردوس بذاته!


وفي مشهدٍ رباني محكم، رمى الرجل النبيل العصا ومضى، ظنوها عصا، فإذا هي حية تسعى، ظنوها عصا، ثم هي تشطر البحر نصفين، كل فرق كالطود العظيم، ظنوها عصا، فإذا هي تلقف ما يأفكون، ظنوها عصا، فإذا هي تفجر اثنتي عشرة عينا قد علم وسيعلم كل أناس مشربهم، ظنوها عصا، فإذا هي عود ثقاب، يحرق الحارق، ويقلب السحر على الساحر، ويشعل بالنار من عبث بالنار مع خالقها، ويحوّل المحتل الأكبر إلى جمر متقد، إلى بركان يمشي على مهل في مشهد عام، ويمشي على عجل في كل مشهد صغير، تنتقل الحمم من مكان إلى مكان، حتى تنقطع السبل بمن ظنوا أنفسهم ملكوا السبل، وتجف المياه ممن جففوا على غزة المنابع، وتضيق الأرض بالنازحين من أثرياء بلاد السمّ، بعدما ضيقوا الأرض على النازحين في بلاد الشهد والزعتر، وباتوا يبكون على الهواء في البث المباشر بعدما كانوا في النوافذ نفسها يتضاحكون وتبكي غزة أيما بكاء، وتحولت الولايات المتحدة إلى ولايات متّقدة، وذلك الجحيم الذي هدد به ترامب غزة وأخواتها، قفز إلى داره، بينما توشك غزة أن تسلم منه، ولو أراد الله لسلمها حرارته منذ اللحظة الأولى، لكنها نيران المؤمنين الموحدين، ككل أصحاب الرسالات من قبل، وسنة الله منذ جدنا إبراهيم، إلى غزة هاشم.


شماتة؟ ما يحدث يستحق الاعتبار، لكن الشماتة مدخرةٌ لما هو أكبر ولم يأتِ بعد، هذا مجرد “خزي” في الدنيا، نبذة عما ينتظر هؤلاء في جهنم الآخرة، ومثَل لمن يظنون حصونهم حاميتهم من الله، فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب، وهو رب النار والفردوس، الذي يجعل ناره موجبةً للجنة في مكان، وناره مقدمً للعقاب في مكان غيره، وله الملك كله، وله الحكم كله، وإليه يرجع الأمر كله، ليذوقوا وبال أمرهم، وليتلظوا في النار التي أشعلوها بدايةً واعتقدوا أنها حكر على غزة.


من الذي أشعل النار؟ أمريكا هي التي أشعلت نارها، يوم قذفت بها على غزة في أسلحتها المدمرة لفتاتها المدللة “إسرائيل”، يوم حرقت الشجر والبشر والحجر، يوم اتبعوا سياسة “الأرض المحروقة” وتجاهلوا أن لا يحرق بالنار سوى رب النار، فصارت أرضهم المحروقة، بينما ستستحيل أرض غزة قطعةً من الجنة، ستهدأ وتطمئن وتملك رفاهية البكاء، ثم ترف الضحك، بينما ما زالت النار في أولها على أعدائها، ودورهم جميعا آتٍ، في معركة القابضين على الجمر، جنود الله وخاصته، والمشعلين الأخدود بأصحاب الأرض، فيسلم بنو إبراهيم، وتهلك آلهة بابل، وتنجو سفينة نوح، وتغرق الأرض في أمواجها الحارقة، فتحرَق بما يغرق، ويقول المؤمنون: الحمد لله رب الطوفان، والنيران.



شارك

مقالات ذات صلة