في كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيَّان التَّوحيديِّ:
قالَ الشَّعبيُّ: شهدْتُ شُريحاً القاضي وقد جاءته امرأة تُخاصمُ رجلاً، فأرسلتْ عينيها وبكتْ بكاءً شديداً.
فقلْتُ له: يا أبا أُمَيَّة، ما أظُنُّ هذه البائسة إلا مظلومة!
فقالَ لي: يا شعبيُّ، إنَّ إخوةَ يُوسف “جاؤوا أباهم عشاءً يبكون”!
هذا هو شأن الناس دوماً، يكونُ أحدهم ظالماً مفترياً، ثم يجلسُ يتشكَّى كأنَّهُ المظلوم.
يجلدُكَ أحدهم بِسَوْطِ لسانه، ويأكلُ لحمكَ في كلِ المجالس، فإذا فاضَ بكَ الكأس، وما عادَ فيكَ ذرة احتمال، فرددْتَ عليه بعض قوله، لرأيته قد لبسَ عباءةَ التُقى، واتهمكَ بما هو غارق فيه!
تُوزَّعُ تركة الأب، فيستأثرُ بعضهم بها، فإذا طالبَ بعضُ الإخوةِ بحقِّهِم في القضاء، صاروا يقولون: أين صلة الرحم، وكيف يُجرجرُ المرءُ أخاه إلى المحاكم؟!
يُريدون أن يضجعوكَ أرضاً، ويُسلمون وتلَّكَ للجبين، ويذبحوكَ، فإذا انتفضتَ اتهموكَ أن سكينهم آذتهم لأنكَ لم تكُنْ ذبيحاً مُسالِماً! ولو نفرَ دمُكَ وأصابَ ثيابهم لاشتكى الذابحُ من قلةِ صبرِ الذبيح!
تعيشُ الزوجةُ ردحاً من الزمنِ صابرة، لا يُسمع لها صوت، تتلقَّى الإهانة بعد أُخرى، ممَّن خانَ الأمانة، فإذا فاضَ بها الكأس، وأنطقَهَا الألم، اتَّهموها بالنُّشُوز!
بلد الأبجديَّة ضاقَ صدره على شاعرٍ مطلوب بتهمة قصيدة!
من حقِّ الآخرين أن يعبثوا ببلده، ولكن ليس من حقِّه أن يُعبِّرَ عن رأيه في هذا العبث!
عليه أن يتلقى الصَّفعَ على خدِّ وطنه، وإذا ما قال بيتاً غاضباً، صار هو الخارج عن القانون!
دولٌ بطولها وعرضها تتصدى لقصيدة هجاء!
هل كنتم تتوقعون قصيدة غزلٍ مثلاً فأصابتكم خيبة أملٍ عاطفيَّة!
حتى الكلام تستكثرونه على النَّاس، اتركوا لهم فسحة من الغضب كي لا ينفجروا!
حتى ميكافيلي الذي كتبَ أفظع كتابٍ للاستبداد ينصح بترك متنفس!
تعلموا من المستبدين الذين سبقوكم!
دريد لحَّام كان يُنفِّسُ عن الناس في كاسك يا وطن!
وياسر العظمة كان يُنفِّسُ عن النَّاس في مرايا!
وكلُّ ما استغربنا كيف أفلتَ من الرَّقابة، كانت الرَّقابة هي التي أفلتته عمداً!
إن الهدف من هذا أن المرء حين يجد شخصاً يقول ما كان يريدُ قوله سيتوقف عن محاولة قوله!
والاستبداد العاقل يختار قول الفرد على قول الجماعة! أما الاستبداد الأهبل يسعى لتكميم كل الأفواه!
مشكلةُ الناسِ أنهم لا يعرفون إلا رداتِ الأفعال، أما العذابات المتكررة، الإهانات التي لا تحتملها الجبال، الظلم الذي تراكمَ فوق بعضه حتى بلغَ عنانَ السماء، فلا يراه أحد!