تأملات

الأرض لله والعاقبة للمتقين..

يناير 11, 2025

الأرض لله والعاقبة للمتقين..


كل ليلة تمر علينا من هذه الحرب كأنها أثقل من أختها٬ الهموم تثقل القلب والأكتاف٬ يا الله: كيف تَهُوْن كل هذه المصائب٬ وكيف تُشْفى كل هذه الأوجاع٬ ومتى تبرد نيران قلوبنا على أحبابنا الذين استودعناهم إلى جوارك الكريم٬ متى نُدرك ثاراتنا على أعدائنا الذين قتلوا الصغير والكبير وأهلكوا الحرث والنسل ويفسدون بالأرض دون رادع أو حسيب أو رقيب.


غزة العنيدة الجريحة٬ تختبرنا منذ 460 يوماً ولا تزال تتحول فيها المِحَن إلى مواسم عبادة، الله يختبر صبرها ويقينها٬ وهي تختبر ضمائرنا وأنفسنا وهمّتنا أمام الله وأمام أنفسنا.. يتمايز الصادقون والمدّعون٬ والأنفس تُفتن كل يوم ألف مرة ومرة.. “أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ”.. بلى يا رب.


تخوض غزة منذ عام ونيف أعظم الآلام وحدها٬ آلام مخاض أمة بأسرها٬ فمتى تلفظ الأمة خبثها وتغسل عارها أمام شلال الدم المتدفق كل صباح ومساء.. “إِنَّ الأَرضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِن عِبَادِهِ والعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ”.. تسكن نفسي٬ وأردد ذلك الوعد الإلهي في داخلي وأقول يا رب صبراً على ما لم نحط به خُبرا٬ صبراً على كل هذا الظلم والجور الذي ملأ الأرض والهواء حتى اختنقت به الصدور.


لكن وعد الله بالتمكين والنصر لا يتحقق إلا لمن صبر واتقى.. غزة اليوم تعيش وتموت في هذا الطريق الشاق، حيث تُروى الأرض بالدماء، وتُبذل الأرواح رخيصةً في سبيل الله٬ وينعى الأحباب أحبابهم واحداً تلو الآخر٬ ويرتقي أكرم الناس وأشرفهم وأنقاهم وأزكاهم. وكلما ظنّ الواحد منّا أن الأصعب قد مَرّ٬ يأتي ما هو أدهى وأمرّ٬ ووالله لولا إيماننا به وحسن ظننا بخالقنا ويقيننا بوعده الإلهي لسُلبت منا العقول لهول ما نشاهد ونسمع ونرى٬ فما بالك بمن يعيش كل هذه الأهوال!


ورغم كل تلك الآلام والأوجاع٬ تتجلى عبادة الصبر وحسن الظن بالله في هذه البقعة الصغيرة كل يوم أمامنا٬ فنصبر على جهلنا من الحكمة التي تتوارى خلف الحجاب، ونعود لنحدث أنفسنا بأن ما يحدث اليوم لن يكون نهاية الحكاية٬ وأن العاقبة للمتقين.. وما أمسّ حاجتنا للفرار إلى الله واللجوء إليه وتلمس عظمته ورحمته٬ وتذكير أنفسنا الضعيفة في كل لحظة يحاول اليأس التسلل إليها٬ بأن الأرض وما فيها ملكٌ لله وحده، لا يخضع تقسيمها لقوانين البشر الزائفة، ولا يُحدد مصيرها طغيان الظالمين الطارئين٬ وأن الله يُورث الأرض لعباده الصالحين الذين يختارهم لحكمته وعدله، وأن العاقبة -وهي النصر والخير في نهاية الأمر- لا تكون إلا لمن اتقى الله، وابتغى رضاه، وثبت على الطريق.


ووعد الله هنا ليس مقصوراً على الآخرة فقط، بل يشمل أيضاً الدنيا. فكما وعد الله أهل التقوى بالجنة في الآخرة، وعدهم في الدنيا بأن تكون لهم العاقبة الحسنة، ولو بعد حين.. وحين نتذكر قصص الأنبياء والصالحين وهم أجلّ خلق الله، نجد هذا الوعد يتحقق في كل زمان ومكان. فرغم ما تعرض له نوحٌ عليه السلام من تكذيب، وإبراهيم عليه السلام من نيران الظالمين، وموسى عليه السلام من طغيان فرعون، ومحمدٍ صلى الله عليه وسلم من حصار قريش وأذاها، كانت النهاية دائماً نصرةً للحق ورفعةً لأهل التقوى.


وهذه دعوةٌ للتوكل والثبات على حسن الظن بالله٬ ليس لغزة التي تصقل إيمانها كذهبٍ نقيّ تحت وطأة النار٬ ونسأل الله عز وجل بأن تتنزل على أهلها رحماته وسكينته وكراماته٬ بل لنا نحن بالدرجة الأولى: المتفرجون المقصرون الذين تُختبر أنفسهم الضعيفة كل يوم٬ وكم فينا من “بني مقرن” من أهل مزينة٬ الذين نزلت فيهم تلك الآية من السورة التوبة (ولا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ).. ونشهدك يا الله أن عيوننا تفيض حزناً على أحبابنا وعلى ديننا وأوطاننا٬ ولكنها مشيئتك وحكمتك.


نَفِرُّ إلى الله ونصبر ونحتسب ونبذل كل أسباب الوسع لنصرة أخواننا٬ وحسن الظن بالله٬ ونسأل الله الثبات الراسخ واليقين الذين لا يتزحزح بأن وعد بالله بالنصر والتمكين حق.. قد يظن الظالمون أنهم منتصرون بقوتهم ويغترون بها، وربما يظنون أن سيطرتهم على أسباب القوة لا نهاية لها، لكن حاش لله أن يخلف وعده٬ والعاقبة وإن كانت لا تأتي فوراً، فهي حتمية للمتقين٬ فطوبى لمن سار في درب المتقين الصابرين.


شارك

مقالات ذات صلة