آراء

الظل والحرور: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة العربية

الظل والحرور: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة العربية


أنا واحد ممن أهدى إليهم الشيخ فهد بن عبد الله الجريوي كتابه “الظل والحرور” المجموعة الثانية، فقد أهداه إلى قراء المجموعة الأولى، وكنت واحدًا من قراء الجزء الأول. وقد تحمست للكتاب وتحدثت عنه بين الأصدقاء والقراء كعادتي عندما يعجبني كتاب جميل وأشعر بأهمية أن يقرأه الناس، حتى أغريت الكاتب عارف حجاوي باستعارة نسختي وقراءتها، فأُعْجِبَ بالكتاب وظهر على التليفزيون يتحدث عنه في برنامجه “سيداتي سادتي”، وقد قال الأستاذ عارف حجاوي يومها عنه: “هذا الكِتاب كُتِب ليُحَبّ”. لو اطّلَع على الجزء الثاني لتأكد له هذا الأمر.


وقصتي مع الظل والحرور أنني محبّ لفن السير الذاتية، لذلك أتتبع كل فقرة أبحث فيها عن القصة هل مرت عليّ من قبل، وأنبش في الهوامش بحثًا عن عناوين جديدة لسير مجهولة لي، وكم اكتشفت من اختيارات الأستاذ فهد الجريوي، فهو منقّب ممتاز في بطون كتب السير الذاتية والمذكرات، وأحيانًا يقف على نفس السيرة التي قرأتها مثل مذكرات عالم الأمس لستيفان تسفايج، أو عصارة الأيام للروائي سومرست موم، ويستخرج منها قطعة جميلة وفقرة منسية وحكاية في الزاوية، وأكون قد قرأت هذه المذكرات من قبل وأتعجب كيف نسيت هذه القصة وأتأمل في اختلاف أذواق القراء واختياراتهم المنوعة من نفس الكتاب.


وقد أخبرنا الكاتب فهد الجريوي في مقدمة الكتاب: “فَتَحْتُ لك في هذا الكتاب نافذةً ترى منها حوادثَ الأيامِ وعِبَر السنين وخُلاصةَ العمر وصروفَ الزمان، ممَّا قد يُخَفِّف عنك بعضَ الأسى والألم، ويثير في نفسك شيئًا من بواعث الرضا والسرور وشُكرِ النِّعَم، لكي تعلم بعد قراءته أنَّه مهما اعتَوَرَكَ من الهَمِّ، وانتابك من مُرِّ الليالي والأيام، فهذا طريقٌ ماضٍ، وجادةٌ سلكها الناس قبلك”.


وقد أبدع الشيخ فهد بن عبد الله الجريوي في اختياراته من السير الذاتية في فصل آباء وأمهات، في المجموعة الثانية، لقد أحسن البحث عن سير مغمورة غير مشهورة واختار قصصًا طازجة مؤثِّرة، ورسم بهذه المنتخبات صورة لمجتمع الجزيرة العربية في عهد مضى، كأنه يرسم لوحة لزمن مفقود.


لم يسرف الأستاذ فهد الجريوي في النقل من سير المصريين، وحسنًا فعل، فقد زهِقتُ -والزهق أقوى من الملل- من ترديد المثقفين القصص المكررة من مذكِّرات طه حسين وأحمد أمين وغيرهم من المشاهير، وما اختاره من مذكرات المصريين يفوح برائحة البحث وفضيلة الذوق الجميل، واختيار المرء جزء من عقله، والكاتب صاحب ذائقة، وميزة كتاب الجريوي أنه يضمّ قصصًا جديدة غير مستهلكة من بيئة المجتمع في الجزيرة العربية وحياة أبطالها، حتى قبل ظهور النفط، كأنه يريد بعين المؤرخ الاجتماعي تسجيل وقائع زمن مضى ولم يبقَ منه إلا شهادة من عاشوه، حكايات عن البادية ونمط العلاقات بين الناس، وذكر حكايات الفقر في بدايات المملكة وتجارب كثير من الرواد، خذ مثلا هذه القصة عن الملك عبد العزيز ورجل الأعمال صالح الراجحي.


صالح الراجحي والملك عبد العزيز


ينتقي الكاتب فهد الجريوي هذه القصة الجميلة من سيرة سليمان الراجحي منظومة حياة: “ذات يوم وبينما أخي صالح يحمل أدوات بضاعته كعادته متجهًا إلى وسط الديرة، كان موكب الملك عبد العزيز يمرّ وسط الطريق، وكان صالح سائرًا في الطريق، وحينما اقترب منه الموكب قذف الملك نقودًا من الفضة كعادته حينما يرى الناس في الطرقات.


مرّ صالح دون أن يأخذ شيئًا من النقود، فوقف الملك سيارته ونزل منها، فأسرع البرقاوي إلى صالح يسأله: لماذا لا تأخذ من النقود؟!


كان البرقاوي واقفًا أمام عربته التي تجرُّها الخيول وعليها الصيتي (وهو الرجل الذي يبلغ الناس بأوامر الملك أو ليفسح له الطريق).


كان الملك عبد العزيز رحمه الله ذكيًّا دقيق الملاحظة، فأثاره المشهد وأراد معرفة السبب. فكان جواب الأخ صالح غريبًا للذين جاؤوا وأخذوا النقود المرمية في الشارع، ومثيرًا لحاشية الملك أيضًا، فقد أجاب أخي عن السؤال بقوله: «أريد مِن الذي أعطى الملك أن يرزقني».


وكان عمر أخي صالح حينها لم يتجاوز ستة عشر عامًا، فقال الملك عبد العزيز: «هذا رجل سوف يغنيه الله». ثم تَفرَّق الجمع وذهب صالح في طريقه. ومرت السنوات، وتحققت توقعات الملك عبد العزيز، رحمه الله”.


اكتشافات مجهولة في عالم السير


من الأمور المميزة في كتاب الظل والحرور الجزء الثاني، كيف انتقى المؤلف الشيخ فهد الجريوي من كتاب “حياة واحدة لا تكفي” للأستاذ حسين بافقيه ما يقارب عشرة اقتباسات مطولة ذاتية عن العلاقة مع الكتب والمجلات والقراءة، واستخرج من كتاب بافقيه نصوصًا ذاتية عالية الفائدة ضمها إلى مجموعته القيمة من مختاراته من السير الذاتية العالمية، وفعل نفس الأمر مع كتاب مسار لعبد الفتاح كيليطو، وهو كتاب حوار مع هذا الناقد المرموق، واستطاع أن يقتبس من هذه المحاورة نصوصًا ذاتية بديعة يضمها إلى مجموعته من السير الذاتية والمذكرات.


ومن السير التي تَعرَّفتُها من الظل والحرور، سيرة بعنوان الحنين إلى النص، انتقى منها أ.فهد الجريوي قصة ترجمة أسعد دوراكوفيتش كتاب ألف ليلة وليلة إلى اللغة البوسنية في أثناء الحرب هناك… يكمن جمال القصة في قدرة الأدب والترجمة والتأليف على إعطاء معنى للحياة في الأوضاع الحدية والحروب.


عشيات الحِمَى ومحاسن أهل الجزيرة


من المنتخبات الجميلة التي تحكي عن الحياة في الجزيرة العربية، ما اختاره الجريوي من سيرة حمد البليهد بعنوان “في عشيات الحِمَى: سيرة الطفولة“، وهذه فرصة للتعبير عن جمال عنوان سيرة البليهد، وهو مقتبَس من بيت للشاعر الصِّمَّة بن عبد الله القُشَيري:


وأَذْكُرُ أيامَ الحِمَى ثم أَنْثَنِيِ   على كَبِدِيِ مِنْ خَشْيَةٍ أن تَصَدَّعَا

فَلَيْسَتْ عَشِيَّاتُ الحِمَى بِرَوَاجِعٍ   عليكَ، ولكنْ خَلِّ عَينيْكَ تَدْمَعَا


ومعناه: عندما أذكر أيامنا في الحِمَى أثني جسمي حتى لا تتشقق كبدي حزناً. يحكي حمد البليهد عن أمه: “كانت أمي البنت الكبرى لأبويها، وقد وُلدت في بيت من الطين، مسقوفًا بجريد النخيل والأثل، لا يزيد على عشرين مترًا، وهو بيت لا يكاد يصل إلى مرتبة الفقر، بناه رجل قضى شطرًا من حياته في الغربة لمطاردة لقمة عيشه، وقد بلغت أمي التاسعة من عمرها وهي تسمع بأبيها دون أن تراه، أما بقية حياته فقد قضاها مزارعًا تطارده الديون.


لم تدرك أمي مرحلة ازدهار النفط، وما تَبعها من تغيُّرات في نمط العيش، إلا في النصف الثاني من حياتها، أما مرحلتا طفولتها وشبابها فقد عاشتها فيما دون خط الفاقة، تشارك النمل في قوته، وأحيانًا لا تترك له شيئًا”.


من بيت الشعر إلى دترويت


مثلا اكتشفت من الظل والحرور سيرة بعنوان “من بيت الشعر إلى دترويت” للدكتور سعود الرحيلي، ولم أجد لها كثير ذكر في مواقع التواصل، ويبدو أن الدار التي نشرَتها غير مشهورة، اسمها دار المفردات.


وأقطف مشهدًا من حكايات د. سعود الرحيلي يقول: “أول درجات الوعي إحساسي بظلام دامس داخل بيت شَعَر أو داخل شيء ما، أكان ذلك بعد الولادة بنصف سنة أو سنة أو سنتين؟ لا أدري! قالت أمي: «كنت وأنا حامل بك أهشّ على الغنم بالمِحْجَن (عصا طويلة لها طرف معقوف لتناول أغصان الشجر)، فانفلت المحجن من الغصن وضربني في بطني ضربة مؤلمة»، وهذا يعني أنني أنا الذي تلقيت الضربة معها. ومرة أخرى قالت إنها كانت تسير مع الغنم في سفح الجبل، فانقطع حبل الركوة (وعاء جلدي يُحمل فيه الطفل تعلّقه الأم على متنها) فسقطتُ وتدحرجتُ. أيصحّ القول إن تلك كانت تجارب غامضة تعلمت منها غريزة تلافي الصدمات؟”.


أو ما حكاه عن والده في مكة: “خرج ذات يوم وبصحبته شقيقي سعد لقطع خُصَل السمر الرطبة علفًا لجِماله، تَسلَّق شجرة، وفتح بعصاه فجوة بين أغصانها نفذ منها إلى أعلى الشجرة، ولكن قدمه زلت به، فسقط من أعلى الشجرة على كومة من الحجارة الكبيرة، وكانت تلك طيحته التي لم يقُم منها، وإن كان قد بقي بعدها طريح الفراش فترة طويلة، بقي تحت الشجرة عاجزًا عن الحركة، وحين أتى الرجال لإسعافه حملوه في عباءة أمي. كان قد انخلع عنده الحوض أسفل الظهر، ولم يكن البدو يعرفون المستشفيات والعمليات والطب الحديث، فبقي فترة يعاني الألم، ثم لدغته حية وهو طريح الفراش في حجرة قريبة من البيت، فظلَّ يتألم حتى توفي”.


طفولة فهد المارك


وترى الكاتب ينتقل بك إلى مشهد حاسم في طفولة فهد المارك عن والده: “أما والدي فقد كان فارسًا يعيش من كسب سيفه ورمحه، في كنف إمارة آل رشيد، حكَّام حائل حينئذٍ، شأن والدي شأن رجال بيئته، ورجال مجتمعه، الذين لا يرون للمرء قيمةً ولا وزنًا بين ظهرانيهم إلا بقدْر ما يكون فارسًا مغوارًا، موفقًا وماهرًا في شهية كسبه الإبل من القبيلة المعادية لقبيلته، ويكون احترامه وتقديره بين مجتمعه أعظمَ وأجلَّ فيما إذا كان كسَّابًا وهَّابًا، وكان والدي من هذا النوع رحمه الله، وبقدر ما كان ذا حظّ في الغنيمة، فإنه لم يكُن لي نصيبٌ من غنائمه الكثيرة من الإبل والغنم، ذلك أن كثيرًا من كسبه كان يهبه لمن (يستحذيه)، أي من يطلب منه الهدية، وهي: عادة مألوفة.


وأذكر أن والدي بعث إليّ عنزًا من غنم كثيرة كسبها من قبيلة حرب، وكان ذلك قبل وفاة والدتي بأشهر، فرجَعَتها والدتي عليه، ولقَّنَتني بأن أقول لزوجته الجديدة: أيكون نصيبي عنزًا من حَلاَل أبي، وأنتِ وإخوانك تعيشون من خيراته؟!


حفِظْت هذه الجملة، وقلتها لزوجة أبي، الذي جاء إليها ووجد الدمع يتناثر على خديها، فسألها: ما السبب؟ فأخبرته بما حلَّ بها من ويل وثبور!


ولكي يُرضِيَ عروسه الجميلة، دنا منّي، وانتضَى سيفه، ووقف بجانبي يهدِّدني بأني إذا عدتُ إلى ذلك فإنَّه سوف يضربُ عنقي بسيفه، وكان المرحوم (سليمان النودلي) حاضرًا، ينظر ذلك المشهد، حيث لام والدي قائلًا: «إياك يا مارق أن تُهِينَ ابنَك إرضاءً لزوجتك ابنة ابن جميعة؛ إنني أخشى أن لا يُحيِيَ ذِكرَك غير ابنك هذا؟».


ذهبتُ إلى والدتي، وأخبرتها: بأنَّني نقلتُ رسالتها، كما أخبرتُها بمعاملة والدي، وبلوم سليمان النودلي لوالدي، فهبَّتْ مسرعة، وتقبَّلت القبلة، وقالت: «اللهم إن كنتَ تعلمُ أنَّني حافظةٌ هذا الولد من صلب أبيه، فإنَّني أسألك: أن لا تجعل لوالده ذريةً تُحيِي ذكره غير هذا الولد». وعلى الرغم من حداثة سنِّي، فإنَّني بقدر ما وعيتُ معنى الكلمة التي قالها المرحوم (النودلي)، تشاءمتُ من دعوة والدتي التي تحقَّقَ لها ما تريد، بينما انقطعتُ من الإخوان، حيث أنجبَ والدي بعدي الذرية السالف ذكرُها، وكلُّها توُفّيَت من ذكر وأنثى. كان والدي ككثير من رجال ذلك العهد الذين يرون العطف على الولد مدعاةً لعدم رجولته التي يعدُّونها الميزة البارزة على نجاح ونجابة الولد، لذلك لا أذكر قطعيًّا أنَّ والدي قبَّلني إلا عندما يأتي من سفر، كما لا أذكر أنَّه ضربني إلا مرةً واحدة، وأعتقد أنه على حقٍّ، لأني أرغمتُه على ضربي”.


سير سعودية


هذه المشاهد المختارة بعناية من بطون السير والمذكرات، تدلّ على وجود سير ذاتية سعودية تستحقّ القراءة والنقاش وتكشف عن كسل معرفي وذهني من النقاد العرب في معرفة السير الذاتية السعودية وأنماطها المختلفة من رجال أعمال وعلماء ومثقفين، لقد استطاع الجريوي أن يبث الحياة في كثير من المذكرات، ويورد قصصًا وحكايات عن شخصيات علمية مثل الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، والشيخ ابن عثيمين أو طفولة اليتم التي شعر بها منصور بن محمد الخريجي التي حكاها في سيرته “ما لم تقله الوظيفة“، وكيف كان ثوبه مليئًا بالرُّقَع، وقد أصبح مترجم الملك لاحقًا، وقد ذكر ناشر الكتاب أن الملك سلمان بن عبد العزيز، هاتف الخريجي معلِّقًا: “جلست طوال الليل أقرأ كتابك هذا يا منصور، ولم أنم للحظة واحدة، وذهبت إلى المكتب دون نوم، لأني جلست عليه من الساعة العاشرة مساء إلى الساعة السابعة صباحًا”، مُبدِيًا إعجابه بما فيه من تجرِبة وعصامية.


يذكر الكاتب أن سيرة التحول لمسعد بن عيد العطوي وسيرة الجوف للدكتور عبد الواحد الحميد، وخلاصة الأيام للدكتور فهاد المعتاد، من أفضل ما قرأ في وصف الحياة الاجتماعية في شمال المملكة العربية السعودية، ويذكر عن بدايات لمحمد عبد الرازق القشعمي أن فيها وصفًا دقيقًا للحياة الاجتماعية في نجد.


هذه اللقطات الكثيرة تحمِّس الذهن لقراءة شيء جديد وطازج، خصوصًا أن الكاتب فهد الجريوي نظر في ما يقارب ألف سيرة! واختار منها 220 سيرة في هذا الكتاب، وكتابه يدل على سياحة واسعة وممتعة في عالم السير الذاتية والمذكرات، وعلى الرغم من خلوّ المنتخبات من مذكرات أهل السياسة وحجته في ذلك قوله: “لأن حقها أشبه بالباطل، وباطلها أشبه بالحق، لذا أعرضت عنها في هذا الكتاب”.


أختم بفقرة ذاتية من المؤلف فهد الجريوي ذكرها في مقدمة الجزء الأول من الكتاب: “أحببتُ السِّيَر الذاتية، وما كان شَجْنَةً منها متصلًا بها؛ كالمذكرات والذكريات، والاعترافات واليوميات، واتَّصلت أسبابي بها من نحو عشر سنين؛ جمعت خلالها 1000 عنوان أو تزيد…. وعِشتُ مع جملةٍ من السير الذاتية أيامًا حلوة ومرة: ضَحكًا كالبُكا، وحزنًا مَشوبًا بالسرور، ومتعة يُكدِّرُها شيء مما تقع عليه العين؛ من مجاهرة بالخطيئة، وترويج للباطل، وفساد في الأخلاق. ومع هذا كله؛ ففي جملتها ألوانٌ من العِبَر تَـهْدِي إلى الاعتبار”.



شارك

مقالات ذات صلة