سياسة
في خطاب أثار جدلًا واسعًا، ألقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كلمته أمام سفراء بلاده في قصر الإيليزيه، موجهًا حديثه إلى دول منطقة الساحل الأفريقي، حيث قال: “أعتقد أنهم نسوا أن يشكرونا على انخراطنا إلى جانبهم في الحرب ضد الإرهاب، ولكن لا بأس، سيأتي ذلك في الوقت المناسب”. وأضاف ماكرون: “ما كان لأي منها أن تصبح دولة ذات سيادة لولا نشر الجيش الفرنسي في هذه المنطقة”. كما نفى أن تكون فرنسا قد طُردت من المنطقة مؤخرًا من حلفائها، مبررًا الانسحاب بإعادة تنظيم استراتيجيتها.
ماكرون، في خطابه هذا، يظهر مرة أخرى بنبرة استعلائية تستعيد لغة الاستعمار القديم. بدلاً من الاعتراف بأخطاء التدخلات العسكرية الفرنسية المتكررة التي زادت الوضع تعقيدًا في أفريقيا، فضّل الرئيس الفرنسي التحدث عن “الامتنان” و”الشكر” وكأن فرنسا قدمت لهذه الدول هدية مجانية، متجاهلًا الدور السلبي الذي لعبته بلاده في تعميق أزمات منطقة الساحل. كان الأجدر بماكرون أن يقدم “الاعتذار” بدل طلب “الامتنان”.
إذ يؤكد الخبراء أن التدخل الفرنسي وحلف شمال الأطلسي في ليبيا عام 2011 بقيادة الرئيس الفرنسي آنذاك نيكولا ساركوزي كان البداية الفعلية للفوضى في الساحل الأفريقي. فقبل هذا التدخل، كانت المنطقة تعاني من تهديد محدود لجماعة بوكو حرام الإرهابية، التي أوشكت على الانهيار آنذاك. ولكن بدعوى نشر الديمقراطية وحماية المدنيين في بنغازي، قررت فرنسا ودول الناتو شن حرب عسكرية واسعة ضد نظام معمر القذافي. وبعد سقوط ليبيا، تحولت البلاد إلى بوابة لتدفق الأسلحة والمقاتلين عبر حدودها مع النيجر ثم إلى مالي، مما أدى إلى انتشار الجماعات المسلحة وقيادات الإرهاب في الساحل وغرب أفريقيا.
لغة الأرقام تكشف فشل التدخل الفرنسي
حريّ بالذكر أنه مع بداية التدخل الفرنسي وإطلاق عملية “سيرفال” عام 2013، صنّف تقرير “مؤشر الإرهاب العالمي” الصادر من معهد الاقتصاد والسلام منطقة الساحل كمنطقة انتشار أولي للجماعات الإرهابية، مع تسجيل نسب محدودة من الضحايا مقارنة بدول مثل العراق، وأفغانستان، وسوريا، وباكستان. وبلغت نسبة الوفيات الناجمة عن الإرهاب في أفريقيا حينها 17% فقط من الإجمالي العالمي.
بينما في عام 2023، مع طرد القوات الفرنسية، أصبحت منطقة الساحل أكبر بؤرة للإرهاب في العالم. ووفقًا لتقرير مؤشر الإرهاب لعام 2023، فإن منطقة الساحل سجلت 43% من إجمالي الوفيات الناجمة عن الإرهاب عالميًا، متجاوزة بذلك جنوب آسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا مجتمعين. وباتت دول مثل بوركينا فاسو ومالي في صدارة قائمة ضحايا الإرهاب، بينما احتلت النيجر المرتبة العاشرة.
إذا كانت الأرقام والشهادات تؤكد أن التدخل الفرنسي لم يسهم في تحقيق الاستقرار ولا في تعزيز سيادة دول الساحل، بل على العكس زاد من حدة الأزمات، يبقى السؤال مشروعًا: على ماذا تطلب فرنسا الشكر؟ هل على السياسات التي حولت منطقة الساحل إلى مركز للإرهاب العالمي؟ أم على التدخلات التي قوضت سيادة هذه الدول وأفشلت مساعيها للتنمية؟
إن تصريحات ماكرون، بعيدًا عن كونها دعوة للاعتراف بجهود بلاده، تعكس فشلًا ذريعًا في قراءة الواقع، وهروبًا من المسؤولية التاريخية التي تحملتها فرنسا تجاه أفريقيا لعقود طويلة.
ردود فعل القادة الأفارقة
تصريحات رئيس الوزراء السنغالي عثمان سونكو جاءت بمثابة صفعة سياسية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مفندةً ادعاءاته حول دور فرنسا في ضمان سيادة الدول الإفريقية. ففي معرض حديثه تعليقًا على تصريحات ماكرون، قال سونكو: “إن ادعاء الرئيس ماكرون بأن الدول الإفريقية لن تكون ذات سيادة لولا التدخل الفرنسي يتجاهل التاريخ الطويل ونضال شعوبنا من أجل الاستقلال. فرنسا لا تمتلك القدرة أو الشرعية لضمان أمن إفريقيا أو سيادتها. بل على العكس، فإن التدخلات الفرنسية، مثلما حدث في ليبيا، ساهمت بشكل مباشر في زعزعة استقرار بعض الدول الإفريقية وانتشار الإرهاب، مما أدى إلى عواقب كارثية على الأمن والاستقرار في منطقة الساحل”.
وأضاف سونكو: “من الجدير تذكير الرئيس ماكرون بأن الجنود الأفارقة، الذين جُنّدوا قسرًا وقاتلوا بشجاعة خلال الحرب العالمية الثانية للدفاع عن فرنسا، عانوا من الإهمال وسوء المعاملة، ولم يُعترف بتضحياتهم بالشكل المناسب أو الشكر. ولولا تضحياتهم، ربما لم تكن فرنسا تتمتع بسيادتها الحالية اليوم، ولكانت تحت سيادة ألمانيا.” واختتم سونكو تصريحاته بتأكيد سيادة بلاده، قائلاً: “السنغال دولة ذات سيادة، وستظل دائماً حريصة على اتخاذ القرارات التي تخدم مصالحها الوطنية، بعيدًا عن أي تدخل أو إملاءات خارجية”.
تصريحات سونكو تعبر عن صحوة سياسية وثقافية تشهدها القارة الإفريقية، حيث أصبح القادة الأفارقة يواجهون التصريحات الأوروبية بردود ثاقبة وشجاعة، إذ يضع الأمور في نصابها الصحيح ويعيد قراءة التاريخ بعيون إفريقية، بعيدًا عن السرديات التي لطالما كرّست فرنسا من خلالها صورة “المنقذ” لإفريقيا. على عكس ما كان الحال في ظل حكومات عميلة كحكومة محمد بازوم في النيجر، التي بالغت في تمجيد الدور الفرنسي بوصفه “المخلص”.
غرور يكشف الحقائق
لكن ومن طرفٍ آخر، تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على الرغم من كونها تحمل نبرة من الغرور والتعالي، إلا أنها لا تخلو من إشارات تستدعي التوقف عندها. فقد بوضوح أن انسحاب القواعد العسكرية الفرنسية من بعض الدول الأفريقية كان بتنسيق بين جميع الأطراف، وليس قراراً سيادياً. وقد سمحت فرنسا لقادة هذه الدول بالتصريح حول عملية الانسحاب الفرنسي تقديراً لهم. لكن لا يجب تفسير ذلك بأي حال من الأحوال بأنه طرد لفرنسا وقواتها. في إشارةٍ إلى الدول الأفريقية الثلاثة، تشاد والسنغال وساحل العاج، التي أعلنت مؤخراً إنهاء الاتفاقيات الدفاعية مع فرنسا. وذهب أبعد من ذلك حين قال إن بعض هذه الدول اعترضت على الانسحاب، لكن باريس أصرت على المغادرة.
أصلاً كان من الصعب على أي مراقب سياسي أن يصدق أن فرنسا، التي كان رئيسها إيمانويل ماكرون هو القائد الأوروبي الوحيد الذي حضر جنازة الرئيس التشادي الراحل إدريس ديبي، وساهم بشكل مباشر في تنصيب نجله محمد إدريس ديبي كاكا خلفاً له، قد طُردت من تشاد بقرار أحادي. كذلك الحال مع ساحل العاج، حيث الرئيس الحسن واتارا، أوثق حلفاء فرنسا في المنطقة، والذي لم يصل إلى السلطة إلا بدعم فرنسي عسكري مباشر، قد طالب فجأة بإغلاق القواعد الفرنسية.
ورغم ذلك، تتكرر السذاجة السياسية على ألسنة بعض الناشطين والقيادات الحزبية الأفريقية، الذين يروجون لفكرة أن طرد فرنسا من دول الساحل “هتافات سياسية” فقط، وأن دولاً مثل تشاد وساحل العاج حققت نفس الإنجاز دون اللجوء إلى الانقلابات العسكرية.
ما أظهرته تصريحات ماكرون أن مثل هذه التحليلات تفتقر إلى العمق السياسي، وهي أقرب إلى تبرير وجود فرنسا المستمر في المنطقة. إن القول بأن تشاد أو ساحل العاج اتخذتا قراراً سيادياً بطرد فرنسا، بمعزل عن فرنسا، ليست فقط سذاجة، بل يعكس أيضًا جهلاً بالواقع السياسي في القارة.
ما يجعل تصريحات ماكرون مثيرة للاهتمام هو غروره، الذي كشف زيف خطابات هؤلاء. فقد أظهر أن انسحاب باريس كان أقرب إلى خطوة تكتيكية منه إلى استجابة لقرارات مستقلة من حلفائها. بل إن هذا الغرور أتاح لنا فرصة لرؤية الوجه الحقيقي لبعض النخب السياسية والناشطين الأفارقة، الذين لا يزالون يكشفون عن سذاجة منقطعة النظير. تصريحات ماكرون تُعدّ تذكيراً قوياً بأن المعركة الحقيقية في أفريقيا ليست فقط ضد القوى الاستعمارية السابقة، بل أيضاً ضد القيادات والناشطين الذين يساهمون في ترسيخ الهيمنة الغربية من خلال تحليلات سطحية لا تخدم سوى مصالح القوى الخارجية. ومع ذلك، يبقى الغرور الأوروبي دائماً عنصراً كاشفاً لزيف عملائه في أفريقيا.
استراتيجية الظل وإعادة صياغة الهيمنة
جدير بالذكر أن الرئاسة الفرنسية ووزارة الدفاع والاستخبارات الفرنسية (DGSE) كانت قد وضعت استراتيجية جديدة سميت بـ استراتيجية “تقليل الظهور” (Moins de Visibilité) بعد تصاعد موجات “معاداة فرنسا” في القارة الأفريقية. توصلت القيادة الفرنسية إلى استنتاج مفاده أن السبب الرئيسي لهذه المشاعر هو الحضور المادي الواضح للقواعد العسكرية الفرنسية، ما دفعها إلى إعادة صياغة تموضعها العسكري وتقليل عدد القوات، مع الإبقاء على الحضور الرمزي للقوات الخاصة فقط.
ففي فبراير 2023، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قبيل جولة في وسط أفريقيا، عن رغبته في التحول من القواعد العسكرية التقليدية إلى ما أسماه “قواعد شراكة”، مؤكدًا أن هذه القواعد ستصبح أكاديميات عسكرية أو قواعد للتعاون الاستراتيجي، مع تغيير مسمياتها وطريقة عملها وتقليص حضورها الميداني. وأضاف: “ستتغير مظهر القواعد ومنطقها وبصمتها”.
وفي هذا السياق، عيّن ماكرون جان ماري بوكل، وزير الدولة السابق للتعاون في عهد نيكولا ساركوزي، مبعوثًا خاصًا إلى أفريقيا. يُعرفُ بوكل بتوجهاته المحافظة ورغبته في الإبقاء على استراتيجية “فرنسا-أفريقيا” (Françafrique) السيئة السمعة. وقد كُلف بوكل بإعداد توصيات تهدف إلى “العمل بشكل أفضل بموارد أقل”، وقدم تقريره للرئيس الفرنسي في 25 نوفمبر 2024.
ومن توصيات تقرير بوكل ما يلي:
تناول التقرير إقامة شراكة تهدف إلى “تعزيز القدرات العسكرية السيادية للبلدان الحليفة لفرنسا”، واقترح تخفيض عدد الجنود الفرنسيين المتمركزين في القارة بشكل كبير. ومن أبرز ما ورد في التقرير:
تقليص عدد الجنود المتمركزين مسبقًا: في الغابون: من 350 إلى 100 جندي. في السنغال: من 350 إلى 100 جندي. في ساحل العاج: من 600 إلى 100 جندي. في تشاد: من 1000 إلى 300 جندي. مع الإبقاء على 1500 جندي في جيبوتي دون تقليص.
وشرح إعادة تشكيل النظام الأساسي على هذا النحو:
هذا النظام يتيح لفرنسا “زيادة تواجدها بسرعة عند الضرورة” بناءً على طلب الدول الحليفة، والتركيز على التدريب والمدارس العسكرية، الاستخبارات، القوات الخاصة، وتزويد الدول الحليفة بالمعدات والتقنيات الحديثة.
المُثير هنا هو أنه على الرغم من هذه الخطوات المدروسة مسبقًا، أظهرت بعض الدول الأفريقية، مثل تشاد وساحل العاج، مواقف إعلامية مضللة، مدعية أنها هي من بادرت بشكل أحادي إلى طرد القوات الفرنسية، في محاولة لإرضاء الرأي العام الأفريقي المعادي للتواجد الفرنسي. لذلك، كانت تصريحات ماكرون الأخيرة حاسمة في كشف هذه المزاعم، حين بيّن أن فرنسا قررت الانسحاب كجزء من استراتيجية إعادة التموضع، مع السماح للقادة المحليين بالإعلان عن ذلك. وهنا ندرك أن السماح بالإعلان لهؤلاء القادة الغرض من ورائه تحقيق مكاسب داخلية.
ختامًا: ترتيبًا على ما سبق أعلاه ندرك أن تصريحات ماكرون – رغم نبرته الاستعلائية- تعكس بوضوح كيف تخطط فرنسا لتخفيف حضورها العسكري التقليدي في أفريقيا، بينما تبقى في موقع يمكنها التأثير الاستراتيجي وقت الحاجة. لكن ومن طرف آخر، سمحت تصريحاته بتعرية المحاولات الدعائية لبعض القادة الذين حاولوا تضليل الرأي العام، متجاهلةً التنسيق المسبق مع باريس. ولقد قال ماكرون نفسه بعبارات لا تقبل التأويل: “لقد اقترحنا على رؤساء الدول الأفريقية إعادة تنظيم وجودنا العسكري في بلدانهم. وبما أننا نتحلى بقدر كبير من اللباقة، فقد سمحنا لهم بأن يكونوا أول من يعلن عن هذه التغييرات. لكن لا تسيئوا الفهم: في بعض الأحيان كان علينا أن ندفعهم لاتخاذ هذه الخطوة! ليس لأننا نتصرف بتهذيب ونعيد تنظيم استراتيجيتنا، يجب أن يُفسر ذلك وكأنه طرد لفرنسا من أفريقيا. أؤكد لكم أن هناك العديد من هذه البلدان لم ترغب أصلاً في تقليص وجود الجيش الفرنسي أو إعادة تنظيمه. لكننا قمنا بذلك معًا في إطار شراكة حقيقية”.
وهنا، يمكننا أن نستنتج بوضوح أن الدول الأفريقية الوحيدة التي تمكنت بالفعل من طرد فرنسا واستعادة سيادتها الكاملة هي دول كونفدرالية الساحل التي هي مالي، بوركينا فاسو والنيجر. أما بقية الدول التي تُروج لمزاعم مشابهة، فإن الواقع يؤكد بقاء القوات الفرنسية الخاصة فيها. لذا، علينا أن نكون يقظين، حتى لا تنطلي علينا هذه الروايات المضللة.