سياسة
أولويات التنمية
منذ البدء قصدت إخضاع الظرف الموضوعي لسياق المحاولة النبيلة لطلعت باشا حرب في تأسيس مشروع ضخم للرأسمالية الوطنية المصرية لم يستطع إقصاء التأثير الاستعماري وهامش ظله على المعاملات حتى المصرية الصِّرف في البورصة المصرية وأسعار القطن المحلي شديد الجودة تحت تأثير الاحتلال. في المقال السابق، انتقالا من تعثر المشروع عثرات متتالية بسبب تأثير انهيار الاسترليني وفائض إنتاج القطن الذي لم يكن لمصر وحدها استطاعةُ تصديره في الأسواق العالمية الاستعمارية، كذلك ضخامة نجاح مشروع حرب ونبل غايته.
هذا المقال إذ يحاول أن يكون موضوعيا منضبطا للفارق الهائل بين ذاك الصرح العملاق المسمى الرأسمالية الوطنية متجلية في بنك طلعت باشا حرب الممول لعشرات المشروعات بأسهم مصرية، غير المنزه عن الخطأ والهِنّات بالتأكيد، وبين المشروع الجاري الذي ينسب لنفسه مشروعا وطنيا كبيرا تحتكره مؤسسة القوات المسلحة المصرية. أدفع بخصوصية لا تغفل الإدارة وأولويات الاستثمار / حقيقةً لأنها تدلل بكفاءة على انحيازات المشروعين من عدمه لمؤشرات النزاهة أو الفساد على امتداد الطريق ودون انطباع ذاتي قد لا يخلو من الهوى أو الانحياز اللا واعي.
أولويات التنمية في مشروع حرب:
من حيث إنجاز مشروع وطني بحق، أسس طلعت حرب – لا بنك مصر وحده – وإنما عشرات الشركات القابضة المصرية لازمها الاسم (مصر)، مصر للتأمين، مصر للطيران، مصر للسلع المعمرة، شركة مصر للطباعة، شركة بيع المصنوعات المصرية، شركة مصر لحلج القطن، و مصر لنسج الحرير ،شركة مصر لصناعة السينما، مصر للكيماويات، مصر للأدوية، مصر للملاحة، مصر للنقل البحري، وعشرات أخرى برأس مال، إما مصري صرف، أو بالتشارك مع شركات – وليست دول لضمان السيادة لمصر بحيث تظل صاحبة رأس المال والأسهم الأعلى والشريك المسؤول في مجلس الإدارة – كشركات مصر كندا لإنتاج وخلط الزيوت.
بعد هذه المرحلة بدأ العملاق طلعت باشا حرب يؤسس لشركات على مستوى المحافظات برأس ماليٍ جِهَويٍ مصريٍ صِرْف، على سبيل المثال لا الحصر شركات مثل كفر الزيات للمبيدات، الإسكندرية للمنتجات البترولية المتخصصة (أسبك)، الإسكندرية للإضافات البترولية (كبا)، البويات والصناعات الكيماوية (باكين) أسوان للتعدين (أدمكو)، وغيرها عشرات.
الشاهد في الأمر أن أولويات هذا المشروع وإن اتُهم في مرحلة ما أنه بورجوازي النزعة ومنحازٌ طبقيا للإقطاع والأعيان وطبقة الوارثين وأبناء الباشوات، وسيكون هذا متن مقالي الثالث والأخير في هذه السلسة الجمعة القادمة إن عشنا. وإنما فقط هنا أنَبّه بلطف إلى ملاحظة مهمة، أنه ليس من بين مشروعات طلعت حرب مشروعات استهلاكية صماء نهائيا. مشروعات الترفيه في مشروعات حرب جميعها في قطاعات كانت مصر فيها رائدة في المنطقة وتسير خطوة بخطوة بِتفَوّق يغالب أوروبا. السينما والموسيقى والمطابع والكتب كانت ريادةً لمصر في تلك السنوات نادرا ما نافسها فيها أحد باستثناء سورية ولبنان والعراق في الطباعة، حضارات المنطقة الراسخة. باستثناء السينما – قوة مصر المخملية العملاقة التي تفوقت فيها منفردة لأجيال وعشرات السنين منذ إنشاء مصر لصناعة السينما (حرب) ثم استوديو مصر، ومصر للسينما ومصر للتوزيع وانطلقت السينما في العشرينيات والثلاثينيات في مصر رأس حربة السينما في الشرق.
أولويات التنمية في المشروع الحاضر:
يعز علي أن أنظر إلى نفس التجربة اليوم داخل السياقات. في ”المشروع“ الجديد، بشكل موضوعي يتعين علينا أن ننتبه لثلاثة معايير شديدة الأهمية لنفرز الأثرياء الجدد ونحدد أولويات التنمية: الربح لمن يذهب – فائض القيمة لمن يذهب – الموازنة العامة وانحيازاتها للتنمية من عدمه. انطلقت إرهاصات انتفاضة الخامس والعشرين من يناير أصلا بالحراك العمالي والطبقات الوسطى، وكما قلت هذه الحقوق الاجتماعية وعلاقة الدولة بالعمال سأفرد لها المقال القادم كاملا. لكني أتحدث هنا انحيازات ”المشروع“ الحالي بالكامل إما للاحتكار الأكبر متجليا في المؤسسة العسكرية المصرية وفرقة ”صندوق تحيا مصر“ مجازا أي طبقة المتربحين من مشروعات المؤسسة وطبعا أصحاب ”أصول الدولة والمدينة القديمة في القاهرة – والقاهرة الجديدة- وبطول الساحل الشمالي والمجال الاستراتيجي للبحر الأحمر وخليج العقبة (حتى الآن هذا ما نعرف عنه) وقناة السويس وشبه جزيرة سيناء ومجالها الحيوي فوق الأرض، والجبانات تحت الأرض وما خفي بالقطع أعظم.
ذهب غيرُ باحث من بينهم الأستاذ علي القادري في كتابه التنمية العربية الممنوعة للناشر مركز دراسات الوحدة العربية إلى أن خطاب التنمية كان فقيرا بل مفقودا في الانتفاضات العربية، وبعيدا عن أنني أختلف جزئيا مع الفكرة لكنني اتفقت مع الدفع بنيويا. ذهب الباحث الأستاذ القادري إلى أن الربيع العربي جاء وأداء الدول العربية الاقتصادي أقل كثيرا من إمكانياتها، وأن معدلات الاستثمار خاصة طويل الأجل المرتبط بمشروعات التنمية المستدامة ضعيفة مقارنة بالثروات. هنا نتفق في الطرح خاصة بالدفع بأن الربيع جاء وسط توترات – ساهم في بعضها الربيع ذاته – متصاعدة ومبالغة في دور القطاع الخاص والربحية الريعية والرأسمالية إما التي لا تدور في دورة رأس المال الوطني (ما تحت الأنظمة) أو تخرج خارج الدولة أصلا (استثمار يستهلك الموارد ولا يعود للدولة أساسا). الخلاصة التي نتفق عليها أيضا أن “ربما كان لرأس المال الصناعي قدم راسخة في المنطقة لمرحلة طويلة، لكن شروط التصنيع تآكلت مع الزمن”.
نقطة مبدئية قطعا تلي أولويات التنمية بعد فائض القيمة والربح ولمن يذهبان وبعد الموازنة العامة ولماذا تقتطع من موارد الدولة إذا لم تعُد بالفائدة على المواطن (صاحب رأس المال) في مشاريع الدولة التي يُفترض أن ترصد لها الميزانية يدا بيد مع الخدمات (التعليم الصحة الأمن) وهكذا. النقطة المبدئية التي تلي ذلك هي الفارق بين التنمية المستدامة في مقابل الريعية قصيرة الأجل. في مشروع الإسلام السياسي في مصر بعد سنة المجلس العسكري شديدة القسوة أمنيا وسياسيا، نقلت تجربة الإسلام السياسي ربحية الإخوان المسلمين الريعية لإدارة بلد بحجم مصر. هذا التفصيل وحده من دون شرح يشي بالفشل الذريع. من دون تسطيح مخل/ مصر دولة كبرى فوق الأرض وتحت الأرض وفي الخارج، صاحبةُ أجنحة طويلة ودولةٌ عميقة يستحيل معها الحكمُ دون عمق ومواءمات، وهو ما يعتقد الإخوان أنهم فاعلوه بالتآمر على القوى المدنية مع المجلس العسكري أو عن ديمقراطية نظيفة وإرادة شعبية كاسحة تضع الغرب أو القوى الحائلة بين مصر وواقعها الكسيح أمام واقع يفرضه الشعب على المؤسسة العسكرية والغرب والأذرع الممتدة في المنطقة وترعى كشريط اللهب ضد المد الثوري في المنطقة. ”المشروع“ الآن بدأ يمهد لأولوياته في اليوم الذي عين الإسلام السياسي عبد الفتاح السيسي وزيرا للدفاع.
الآن لم يعد الاهتمام بالبنى التحتية في مصر أولويةً للتنمية ولا الإسكان للمواطن ابن الطبقة الوسطى في حقبة السلطة الحالية أولوية إلا من شبكة مهولة للطرق والكباري لتسيير امبراطورية المشروعات العملاقة لشركائها الإقليميين في مصر، سواء المباعة أو التي يتمتعون فيها بحق الانتفاع الآني أو الآجل واحتكارية المؤسسة العسكرية المصرية للرصف والطرق والكباري ونقاط الدفع الإجباري للعبور من النقطة ألف لباء (حرفيا تسمى الكارتة وتدفع فيها يوميا لو طريقك لبيتك أو مدرسة أبنائك أو لأي سبب كان عشرة جنيهات عبورا ومثلها إيابا ومنها العشرات فقد تقوم بالدفع أكثر من مرة، وعربات النقل الثقيلة تدفع حسب حمولتها أضعافا مضاعفة يوميا).
مع تهاوي العملة المحلية المصرية لأسباب بعضها السلطة فعلا بريئة منه بسبب التضخم وانخفاض أسعار الصرف بعد أزمات كوفيد وحرب أوكرانيا وارتفاع أسعار الطاقة والحبوب وغيرها، أقول تهاوت العملة المحلية فتسبب ذلك في إضعاف حاد في القوة الشرائية للجنيه المصري فطال الكساد المنتجات المحلية خاصة الاستهلاكية منها لضيق اليد (استفاق معظمها بأسعار ترتفع يوميا منذ حملة مقاطعة المنتجات التي تعضد إسرائيل منذ أكتوبر ٢٠٢٣). الاحتكار وضعف العملة المحلية وضعف التنمية المحلية حلقة يمكن البدء فيها من أي نقطة تريد وتدور فيها دورات لا نهائية فكلها سبب وكلها نتيجة، في النهاية تؤدي قطعا إلى مصير واحد: إفقار الطبقات الكادحة. يبدو ذلك شديد القسوة لكن ما أكتبه نمطي للغاية وطالما حذر منه اليسار ونقابات العمال في كل زمان: أظن هذه السلطة خططت وتعمل منهجيا لإفقار الطبقات الكادحة وتصفية الطبقة الوسطى وتهجير المناطق الآهلة قسريا (الوراق – مثلث ماسبيرو) وبيع مناطق شديدة الخطورة أمنيا (تيران وصنافير – راس الحكمة وراس جميلة) وتصفية العمالة المنتظمة وغير المنتظمة العاملة باليومية أو بالأجر الأسبوعي (وبريات سمنود – الأسمنت بالإسكندرية – الحديد والصلب – الغزل والنسج بالمحلة) لجذب الاستثمار الأجنبي بالمعادلة القديمة ذاتها لا تتغير: أياد عاملة رخيصة – أرض بوضع يد الدولة بالتهجير القسري – حقوق انتفاع – إلقاء مخلفات الصناعة في مناطق سكنية أو نهر النيل بلا رقابة – كسب غير مشروع بلا رقابة – التشارك مع المؤسسة العسكرية باعتبارها جهة احتكار ليس عليها رقيب – صفر ضرائب).
انعدام التنافسية:
نقطة أخيرة في هذا المحور هي انعدام التنافسية. في نفس المبحث السالف ذكره يرى الأستاذ علي القادري وأتفق معه أن تنافس القطاعين العام والخاص على نفس الموارد بالتأكيد من دون مناقصات عادلة وشفافية سينتصر فيها القطاع الخاص من “الحلفاء الجدد تحت راية التطبيع والمطبعين” وتضرب المؤسسة العسكرية عصفورين بحجر، تنمي علاقاتها مع الشركاء وتضيف سببا إضافيا لإفشال القطاع العام وبيعه وتصفية أصوله، إلا إذا كان القطاع العام في يد طلعت باشا حرب ومساهميه أصحاب الرأسمال الوطني.
اليوم القطاع العام (عمر أفندي) كان في يد المهندس يحيى حسين عبد الهادي وكان من المؤسسة العسكرية المصرية ورتبته رفيعة وعمله في القطاع العام شديد الحساسية والأمانة، رفض عبد الهادي إفشال القطاع العام وبيعه وتصفية أصوله. هذا ما ناضل فيه المهندس يحيى حسين عبد الهادي وحُبس وها هو سجين للمرة الثانية وهو في منتصف السبعينيات من عمره فقط لأنه قال لا، في حين قال فيه الجميع نعم. ولنظام أولوياته بالقطع ليس من بينها التنمية.
في المقال القادم أقرأ في العلاقة بين الرأسمالية الوطنية وعلاقتها بالعامل أولا ثم بالمواطن المستهلك أو صاحب الموازنة التي تدفع لتمويل المشروع.