مدونات
الكاتب: عبدالرحمن حسنيوي
يقول عبد الرحمن بن خلدون (1332 – 1406م / 732-808 هـ ): “إن فن التأريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، وتشدّ إليها الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، ويتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذْ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والأول، والسوابق من القرون والدّول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال. وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لهذا أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعدّ في علومها وخليق”.
عندما وصف المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي ابن خلدون بأنه: “لم يشهد التاريخ في كل العصور وفي كل الأصقاع عبقريًا كابن خلدون”، فإنه لم يكن مجرد إطراء بل شهادة على مكانة هذا المفكر الذي تجاوز عصره وأمته، فعبد الرحمن بن خلدون ليس فقط مؤسس علم الاجتماع ولكن أيضًا ناقد ومجدّد للمناهج التاريخية والاجتماعية قدم رؤية جديدة لقراءة التاريخ، جعلت منه عبقريًا مظلومًا لم تكتشفه أمته إلا بعد أن اكتشفه الغرب وأعاد تقديمه للعالم.
ظهر ابن خلدون في سياق تاريخي شهد تحولات كبرى في العالم الإسلامي، حيث كانت الحضارة الإسلامية قد بلغت ذروتها قبل أن تدخل في مرحلة انحطاط تدريجي في القرنين السابع والثامن الهجريين، فقد ضعف مركز الخلافة العباسية، وبرزت دول وممالك مستقلة تواجه تحديات سياسية واقتصادية وعسكرية، في هذا المناخ المضطرب الذي هيمنت فيه النزاعات بين القوى الإسلامية، وضعفت التجارة، بدأت أوروبا الغربية بالصعود بفضل نهضتها الاقتصادية والعلمية والعسكرية، ما أدى إلى تغير ميزان القوى بين الضفة الشمالية والجنوبية من حوض البحر الأبيض المتوسط.
في مقدمة كتابه ” العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”، أشار ابن خلدون إلى التحولات التي شهدتها العلاقات الحضارية بين ضفتي البحر المتوسط، حيث بدأت المدن الأوروبية (المدن الإيطالية كالبندقية وفلورنسا وجنوة…) تزدهر بينما تراجعت المدن الإسلامية في الأندلس والمغرب والمشرق الإسلامي، هذا التحول الحضاري لم يكن بالنسبة له مجرد نتيجة لحروب أو غزوات، بل انعكاسًا لتحولات عميقة في البنية الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، ففي حين بدأت أوروبا بتبني أنظمة اقتصادية جديدة ومؤسسات قوية تدعم صعودها، كانت المجتمعات الإسلامية تعاني من انقسامات داخلية، وركود اقتصادي، وتفكك سياسي، وتأزم فكري.
ابن خلدون فسر هذه التحولات من خلال نظريته عن الدورة الحضارية، التي تتحدث عن نشوء الدول وازدهارها ثم سقوطها، فهو يرى أن العمران البشري يعتمد على التوازن بين البدو والحضر، وبين القوة العسكرية والنظام السياسي، وبين الاقتصاد المزدهر والثقافة الحية، وعندما يختل هذا التوازن تبدأ الحضارات بالتراجع، كما حدث في العالم الإسلامي، بينما كان الشمال الأوروبي يحقق صعودًا متسارعًا.
ركز ابن خلدون على التحضر باعتباره عنصرًا أساسيًا في تطور الحضارات، في نظره يتحول البدو تدريجيًا إلى الحضر مع استقرارهم وازدهار اقتصادهم، ولكن مع الرفاهية تأتي عوامل الترف والانحلال التي تقود في النهاية إلى السقوط، هذا التفسير كان ملهمًا لفهم التحولات بين الضفة الجنوبية والشمالية للمتوسط، حيث انتقلت القوة الثقافية والاقتصادية والعسكرية من العالم الإسلامي إلى أوروبا.
لم يكن ابن خلدون مجرد ناقد للمؤرخين الذين سبقوه بل كان ناقدًا بناءً، حطم الأساليب التقليدية القائمة على السردية البسيطة التي تهتم بسير الأفراد والنخب والوقائع العسكرية، عوضًا عن ذلك أسس لمفهوم جديد للتاريخ يقوم على دراسة الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، واعتبر التاريخ علمًا يرتبط عضويًا بفروع المعرفة في العلوم الاجتماعية، حيث لا يمكن فصل الأحداث التاريخية عن السياقات النفسية والاقتصادية والاجتماعية التي تشكل خلفيتها.
يركز ابن خلدون اهتمامه على الطبقات المهمشة والظواهر الاجتماعية العامة، بعيدًا عن النخب السياسية والاقتصادية، هذا النهج جعل منه رائدًا للتاريخ الاجتماعي، حيث أصبح التأريخ ليس فقط رواية أحداث النخب بل دراسة عميقة للحياة اليومية والشروط التي يعيش فيها الناس العاديون، ما يوفر فهمًا أكثر شمولية للتاريخ.
رغم هذه الإسهامات العظيمة، ظل ابن خلدون مظلومًا في أمته، فلم يتم الاهتمام الجاد والعلمي بتراثه إلا متأخرًا، وبعد أن أعاد الغرب اكتشافه ودراسة أفكاره، اليوم لا تزال مجتمعاتنا الإسلامية بحاجة إلى استيعاب هذا الإرث الفكري العظيم، ليس فقط بالاحتفال به، بل بتحليله وتطويره وفق احتياجاتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعاصرة.
إن ابن خلدون ليس مجرد اسم في سجل التاريخ، بل مدرسة فكرية تستحق أن تكون جزءًا من الحاضر والمستقبل، فعبقريته لم تقتصر على وضع أسس علم الاجتماع بل تعدت ذلك إلى تقديم رؤية شاملة لفهم التاريخ والمجتمع وتحليل التحولات الحضارية بين الأمم، لذا فإن الاحتفاء به يجب أن يتجاوز الاحتفالات الشكلية إلى تبني مناهجه وتطويرها بما يتلاءم مع تطوراتنا الحديثة، بهذا فقط نكون قد أنصفنا “العبقري المظلوم في أمته”.