يعتقد أكثر الناس أن الدولة العباسية العريقة قد سقطت في منتصف القرن السابع الهجري على يد المغول و يغيب عن ذاكرة القراء و ملاحظاتهم أن الدولة العباسية قد سقطت فعليا في القرن الخامس الهجري سقوطا مدويا دمويا على يد الحكومة المصرية الفاطمية، بفعل انقلاب قام به وزير الدفاع العباسي المسمى بالبساسيري، فقد شهد القرن الخامس الهجري صراعًا حادًا بين العباسيين والفاطميين، وهذا الصراع لم يكن صراعاَ دينيًا فحسب، بل سياسيًا واستراتيجيًا في جوهره بين حكومتي العراق و مصر و نستطيع أن نقول بين التوجهات الطائفية المعروفة وأعني بها السنة و الشيعة الاسماعيلية، و أحد أبرز وجوه هذا الصراع وزير الدفاع العباسي أرسلان البساسيري، القائد العسكري الطموح الذي جسّد بقيامه للانقلاب العسكري على حكومته العراقية لخدمة الحكومة المصرية الفاطمية تحولات سياسية كبرى في المنطقة في ذلك الزمن البعيد.
البساسيري، قائد تركي خدم في الجيش العباسي، لمع اسمه كقائد عسكري ذكي ومتمرد، ففي سياق ضعف الدولة العباسية وتفاقم الأزمات الداخلية، وجد وزير الدفاع البساسيري فرصة للتمرد بدعم من الدولة الفاطمية في مصر. فقد كانت بغداد حينها تعاني من انقسامات سياسية واقتصادية، فيما بدأ النفوذ السلجوقي يزحف لحماية العباسيين.
حتى جاء عام 450 هـ، وفيه قاد البساسيري تمردًا ضد الخليفة العباسي القائم بأمر الله، واستغل الدعم المالي والسياسي من الفاطميين ليعلن الخطبة للخليفة الفاطمي المستنصر بالله في بغداد، و رفع رايات الفاطميين في قلب الخلافة العباسية، في مشهد مثّل ذروة التحدي السياسي والديني للعباسيين.
هذا الحدث لم يكن مجرد تمرد عسكري، بل كان رسالة سياسية عميقة عن التحولات في موازين القوى. الفاطميون، الذين سعوا طويلاً لتقويض سلطة العباسيين، وجدوا في البساسيري أداة لتحقيق أهدافهم، والبساسيري بدوره جسّد صورة القيادي الذي يدير تحالفات مع قوى خارجية لضرب خصومه الداخليين ولو كان على حساب سقوط الشرعية، وهو درس يتكرر في عالم السياسة حتى يومنا هذا.
لكن الصراع لم يكن أحادي الاتجاه، خصوصاَ مع صعود السلاجقة كقوة إقليمية، فقد تحركوا لاستعادة بغداد مباشرة بعد الانقلاب العسكري وحماية الحكومة العربية العباسية، فكان عام 451 هـ / 1059 م، الذي فيه دخل طغرل بك، زعيم السلاجقة مدينة بغداد وأطاح بالبساسيري، وتم قتله في معركة أنهت محاولته لفرض النفوذ الفاطمي، وأعادت العباسيين إلى السلطة السنية العربية، وإن كان ذلك تحت حماية حكومة السلاجقة التركمانية السنية.
بالنظر الى أحداث البساسيري فإنها تعكس خطورة ضعف السلطة المركزية للدولة في تلك الحقبة، حيث أدى التراجع السياسي والاقتصادي لحكومة بغداد إلى جعلها عرضة للتدخلات الخارجية واستغلال القوى العالمية.
ونجد في دعم الفاطميين والحكومة المصرية للبساسيري لم يكن بدافع الولاء، بل كجزء من استراتيجية لتقويض الخلافة العباسية، مما يُبرز كيف تستغل القوى الخارجية الصراعات الداخلية لتحقيق أهدافها، وهو مشهد يتكرر في السياسة المعاصرة.
واليوم في العديد من البلدان العربية التي تعاني من التدخلات الخارجية والصراعات الداخلية نجد هناك تمرداَ يشابه تمرد البساسيري الذي لم يكن منه ثمرة لدولته و شعبه في العراق، ويجعلنا دائماَ متخوفين من استخدام القوى العظمى للقوى الداخلية لتكون عنصر تهديد وتقويض لكيان الدولة و ضياع مستقبل شعوبها.