بين زوايا المشهد الحيّ وفي تلك اللحظات التي تُعلق بين الحياة والموت تتسرب إلى الأنفاس رائحة كثيفة لا تُخطئها الروح إنها رائحة الدم والموت قد تظن في البداية أن مثل هذه الروائح تحمل الغرابة تصدمك تعيقك عن التفكير ولكن شيئًا ما تغيّر في كل زاوية من عالمنا المكسور تسكن رائحة فقد أضحت مألوفة حد التطبيع. هنا تُطرح الأسئلة الكبيرة والصعبة: هل اعتدنا عليها؟ هل أصبح الموت حدثًا يوميًا لا يُثير فينا الخوف أو الاشمئزاز؟ كيف وصلنا إلى نقطةٍ تبدو فيها الأرواح أقل قيمة من فكرةٍ أو عُذرٍ سياسي؟
الموت… بلغة الأرقام
في عالمنا اليوم أصبح الموت حكاية يتم تداولها كأخبار عاجلة أرقام تُعرض على الشاشة دون اكتراث كم فقدنا؟ مئة؟ ألف؟ عشرات الآلاف؟ الأرقام تتكاثر ومعها تبهت الحقيقة وتصبح المأساة مادةً إعلامية وأحيانًا تُستخدم لإعادة تدوير نفس القصص القديمة بلا شعور بالثقل الذي تحمله تلك الأرواح. هكذا تتحوّل الرائحة الحقيقية للموت إلى “أرقام” أرقام لم تعد تهم معظم الناس إلا إذا ارتبطت مباشرة بمصالحهم أو محيطهم.
أجيال تنشأ وسط الموت
ليس أصعب على الإنسان من أن يولد في مشهد الدم والخراب كيف ترى طفلاً يلهو بالقرب من ركام بيتٍ قصف قبل أيام؟ أو شابًا يمر من أمام تابوت شهيد دون حتى أن يبدي التفاتة؟ نرى هذه المشاهد ونصرخ في داخلنا: متى أصبح الألم أمرًا مألوفًا لدرجة أن نبتسم في وجهه أو نُكمل يومنا دون شعور بالذنب؟ إنها الأجيال التي رأت العالم يتناثر أمام أعينها واعتادت فكرة الفقدان، طفل اليوم لا يسأل “ماذا حدث؟” بل يتوقع من اللحظة الأولى الإجابة المحفوظة: إنها الحرب إنه القصف!
تطبيع غير معلن
يبدو الأمر كما لو كان العالم بأسره قد وُضع تحت حالة طوارئ شعورية حيث لم يعد أحد يشعر، تغيب العبارات الضخمة التي كانت تصاحب أخبار الموت عبارات مثل “الكارثة” “المجزرة” “الفاجعة” لتحل محلها لغة متعبة حذرة جامدة لا أحد يريد أن يشعر أكثر مما يلزم العالم يهرب من وزر التفاعل الحقيقي وعليه يصير الصمت أو الإيماء البارد حيلة البشر للخلاص.
الحكام واللامبالاة
وسط هذا الانهيار الأخلاقي نجد أنفسنا في مواجهة أشد واقع إيلامًا في عالم الحكام تصبح المأساة ملفًا يُدار بمنطق الأرقام والربح والخسارة فيهم من يحتفظ بـ”صمته الاستراتيجي” وفيهم من يغرق في خطابات التضامن البليدة التي تفقد معناها لحظة نطقها.
لكن السؤال الحقيقي هنا ليس عن الحكام فقط أين الشعوب؟ أين دورنا؟ كيف نقبل على أنفسنا الصمت بينما يُزهق الدم يوميًا كأنه مشهد سينمائي يُعاد دون نهاية؟ ألسنا المسؤولين عن دفع أولئك الذين يمثلوننا نحو اتخاذ المواقف الصحيحة؟ أم أن الروتين قتل فينا حتى القدرة على الغضب؟ أنين من يعيش الألم .. بالرغم من صمت الأغلبية، يبقى صوت من داخل الجرحاء، العائلات التي فقدت الأحبة والناجون قويًا وإن لم يُسمع كفاية أحيانًا يأتي كأنين مكتوم بين الصمت وأحيانًا كصرخة تُكسر حواجز الرهبة ما زال هناك من يقول: “لا” “كفى” هؤلاء لم يعتادوا الموت هؤلاء لم تتبلد أحاسيسهم.
أحدهم تحدث عن فقدانه لعائلته بأكملها وقال: “لم أتعود رائحة موتهم ما زالت في كل زاوية من منزلي لم أعتد ولن أعتاد” تلك الجملة وحدها كفيلة بأن تصفع الوجوه التي اختارت أن تبتعد عن التفاعل الحقيقي. في ختام المشهد علينا اليوم أن نواجه أنفسنا بحقيقة مُرّة كم مرة مررنا بخبر عن مجزرة أو قصف دون أن نفتح حتى رابط الخبر؟ كم مرة رأينا صور الأطفال المشردين ولم نُلقِ لهم بالًا؟ متى أصبح الدم لغزًا يحتاج منا لصدمة كي نستشعر هوله؟ رائحة الموت والدم ليست مجرد كلمات إنها واقع يفوح في كل مكان تذكركم به كل تلك الأنوف التي لم تشمّ سوى الخراب وتلك القلوب التي لم تعرف إلا الفقد فإن لم نحرك ساكنًا وإن تركنا الاعتياد يتجذر في أعماقنا سنفقد ليس فقط أرواح الضحايا بل إنسانيتنا جمعاء.