سياسة
كان يُحكى في سالف الأزمان عن هجمات المغول الذين لم يشاركوا البشر صفاتهم، فدمروا المدن والحضارات في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين، وكانوا أول من استخدم نظرية “الأرض المحروقة”، لم يفرقوا في القتل بين رجل وامرأة، شيخًا أو طفلًا، ومن لم يقتلوه استعبدوه، ونُسجت حكايات الرعب عنهم، لدرجة أن الأم كانت تخيف أطفالها بهم فتقول: “المغولي قادم”.
بعد قرون عديدة، تطور البشر وانتظموا، وأرادوا منع هذا الشر من الحدوث مرة ثانية، فنسجوا القوانين الدولية، واتفقوا على منع أي شخص أيا كان من تجاوز الصفات البشرية، كما رسموا خطوطًا حمراء منها القتل الجماعي، وحرق المستشفيات والمدارس، وغيرها من الخطوط.
ثم ظهر الإسرائيلي، وكانت شهرته أنه يقتل ويعتذر، يرتكب المجازر ثم يقول: “سأحاسب من قام بها” ولا عجب، فهو “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم”.. وصدقوه.
كيف لإنسان أن يقتل الطفلة الصغيرة هند بمئات الطلقات داخل سيارتها، بعد أن عاشت لساعات تستغيث خائفة في مكالمات هاتفية مع الإسعاف، وهي تجلس بالقرب من جثامين أفراد عائلتها الذين حالفهم الحظ وقُتلوا قبلها، وكيف لإنسان لمجرد التسلية أن يطلق كلبه المدرب على سيدة عجوز قعيدة تجلس داخل بيتها وحدها، وكيف لبشر أن يحتفلوا بأعياد ميلاد أطفالهم وذكرى زواجهم بتفجير المنازل، ثم يضحكون ببلاهة، وكيف لهم أن يحرقوا مستشفى ويقتلوا أطبائها، ليسوا بشرًا مثلنا، بل هم أحفاد المغول ربما.
قبل يومين قابلت مسؤولًا أمميًا، وعندما تحدثنا عن الوضع في غزة قال إنه من غير المعقول ما يحدث، لدرجة أنه في بداية الحرب شكك أن يكون الإسرائيليون وراء هذه الجرائم. لكن مع الوقت، تأكد أن إسرائيل ترتكب ما لا يصدقه عقل، ولا يستطيع أن يفهم كيف لبشر أن يقوموا بذلك، وكيف للبشر أن يكتفوا بالصمت على هذه الأفعال.
كان رده المفاجئ وغير المتوقع دافعًا لي للتفكير في هذه النقطة، كيف لبشر ولو كانوا أعداء وجوديين لك أن يرتكبوا بحقك هذه الجرائم.
تحتاج المجتمعات في تكوينها إلى نواة، وعادة ما تكون تلك النواة مستشفى، مدرسة، نادٍ اجتماعي، وغيرها. ما إن تتوافر هذه العناصر، تستطيع أن تؤسس حولها مجتمعًا، والعكس، إذا أردت أن تدمر مجتمعًا، يجب أن تضرب المدرسة، وتدمر المسجد، وتحرق المستشفى، وهذا ما تفعله دولة الاحتلال؛ تجرف نواة المجتمع، بعد أن قتلت وأجلت أفراده قسرًا.
كمستشفي الشفاء في مدينة غزة، يقف مستشفى كمال عدوان كقلعة الجرحى والمصابين في محافظة الشمال، رمزًا للحياة، وللأمل، وللمجتمع الغزي.
وفي سياق التدمير الممنهج لكل ما يرمز للمجتمع، قامت إسرائيل، على مدى شهور، بتنفيذ هجماتها تجاه مستشفى كمال عدوان، فقطعت الوقود، وأطلقت النار عشوائيًا على المبنى، وإضافة إلى الهجمات الاعتيادية، (التي من تكرارها المفرط صارت عادية)، بدأ الاحتلال في تنفيذ هجمات مكثفة ضد المستشفى تزامنًا مع تطبيق خطة الجنرالات في شمالي غزة.
ففي الأول من أكتوبر الماضي، تعرض المستشفى لعشرات الضربات من “الكواد كابتر” استهدفت أجزاء من المبنى والكوادر الطبية والجرحى، ما أدى إلى تدمير أجزاء من المستشفى وتعطيل بعض خدماته الأساسية.
ديسمبر شهد المأساة الأكبر، بعد أن تعرض المستشفى منذ اليوم الثامن من الشهر لقصف مكثف ومتكرر. وفي إحصاء سريع شمل القصف من ٨ ديسمبر وحتى ٢٦ ديسمبر فقط، سُجل أكثر من ١٠٠ اعتداء، بين قذائف بالدبابات، وقنابل كواد كابتر، وعمليات إطلاق رصاص ممنهجة.
خرج مدير المستشفى د. حسام أبو صفية، الذي كان قد فقد نجله في وقت سابق، صارخًا باكيًا ومستدعيًا ما تبقى من إنسانية العالم، إن وجدت، ولكن لم يلق أي استجابة، قبل أن يينفذ الاحتلال الهجوم الأخير على المستشفى، بعد يوم واحد من إطلاق أبو صفية ما سماه “النداء الأخير”، فاعتقلوه، بعد أن ضربوه ضربًا مبرحًا أمام زملائه، واعتقلوا كل من في المكان من مرضى وأطباء، واقتادوهم لجهة غير معلومة.
كل ذلك أتى بعد إعدامات ميدانية عشوائية في فنائه طبقًا لشهود عيان. ولتحقيق هدفه الأول، أشعل الجيش النار في المستشفى فأتت على كل الأقسام، مدمرًا بذلك آخر “قلعة إنسانية” في شمال غزة، حتى باتت ركامًا بشكل كامل الآن.
لعله من العجيب، أن يحمل المستشفى المدمر، بعد صمود طبي لا مثيل له، اسم كمال عدوان، وكأنها رسالة تذكير باسم الرجل، السياسي الفلسطيني البارز.
كان عدوان من أوائل الفدائيين في الخمسينات، قبل أن ينخرط في حركة فتح، وأنشأ مجموعة من الشبكات السرية التي كانت نواة فيما بعد للحركات المسلحة، قبل أن تغتاله إسرائيل في عملية خارجية ببيروت.
وقد كتب كمال عدوان قبل استشهاده بعام واحد كراسًا سماه “القتال هو الطريق”، سلط فيه الضوء على التباين الجوهري بين عقلية الثورة وعقلية التسوية، مضيفًا أن الفارق بينهما “يمثل الفارق بين الفاعل والمفعول به“، مشيرًا إلى أن إخراج العقلية الفلسطينية من إطار الثورة إلى إطار البدائل هو هدف إسرائيل.
قتلته إسرائيل بعد هذه الكلمات بعام واحد، وأحرقت المستشفى الذي خلد اسمه بعد اغتياله بـ ٥٠ عامًا.. لكن الكلمات ستظل عصية على الاغتيال أو الحرق.