كيف يمكن للقلب أن يحتمل كل هذه الآلام؟ كيف يمكن للروح أن لا تكون ممزقة وثقيلة بصور أطفالٍ رُضّع وجوههم زرقاء وعيونهم شاخصة٬ أنهك البرد أجسادهم الصغيرة في خيامٍ عارية من الدفء في غزة٬ لأن محتلاً صهيونياً أبيضاً سيكوباثياً اختار ذلك٬ وعالم بلا ضمير أو أخلاق صمت عليه.
تخيَّل طفلاً في سنواته الأولى، يرتجف في خيمةٍ لا تقاوم الرياح، يمدُّ يداً صغيرةً لا لتطلب ألعاباً أو دفئاً، بل لتقاوم الموت الذي يتسلل بين أضلاعه. وحين تنطفئ عيناه، لا تنطفئ بسبب البرد وحده، بل لأن العالم المتحضر المشغول بالاحتفال بقدوم العام الجديد٬ اختار أن يتركه وحيداً في معركةٍ غير عادلة. هذا ليس موتاً عادياً، بل صرخةٌ مدوية في وجه الضمير الإنساني. كيف يمكن للحياة أن تستمر، وللأرض أن تدور، وللعالم أن يحتفل بأعياده، بينما أطفال غزة يُسحقون تحت براثن البرد والجوع والقصف؟
يموت الأطفال في خيامٍ مزقتها الحرب، خيامٍ تحوّلت إلى قبورٍ باردة.. وكل موتٍ في غزة هو جرحٌ مفتوح في قلب كل إنسان صاحب ضمير٬ وكل صمتٍ تجاه هذه المأساة هو جريمةٌ ستحل لعناتها على الجميع.. أن يموت طفلٌ من البرد في غزة، أو أن يُحرق مشفىً تلو الآخر٬ ويقتل طاقمه الطبي حرقاً أو ينكل بهم في السجون السرية على يد جيش من المختلين المستكبرين في الأرض٬ هو دليل على فشل العالم٬ وانحطاطه في قاع براثن التوحش وانعدام الرحمة والإنسانية.
المأساة ليست في الموت فقط وأشكاله، بل في المعنى الكامن خلفه. أن يموت طفلٌ من البرد في غزة يعني أن العالم قرر أن يتركه لمصيره، أن يغض الطرف عن حقه في الحياة، وعن حقه في الدفء، وعن حقه في الأمل. هذه الجريمة ليست سوى قرار عالمي باللامبالاة والموافقة الضمنية على إعدام أكثر من 11 طفل غزّي على يد “إسرائيل” في 450 يوم من الحرب٬ وبدلاً من أن تتزلزل الأرض من تحت أقدام المحتلين المجرمين٬ تمر هذه الأرقام كأنها نشرة اقتصادية لنهاية العام 2024.. كيف يمكن لعالمٍ يدّعي التحضر والإنسانية أن يتجاهل هذا الرقم؟! كيف يمكن للإنسانية أن تستمر في طريقها وهي تحمل وزر كل هذه الجرائم؟
11 ألف وجه، 11 ألف اسم، 11 ألف قصة كان يمكن أن تكتب مستقبلاً، صارت في طيّ النسيان بالنسبة لهذه العالم الحقير… الحياة اليومية تمضي بشكلٍ طبيعي. الأسواق مزدحمة، الطائرات تقلع وتهبط، شاشات التلفاز تعرض برامجها المعتادة.. والأسلحة الأمريكية والأوروبية لا تزال تتدفق على “إسرائيل” كأنها هدايا من “بابا نويل” في أعياد الميلاد.. بعد كل ذلك.. كيف لن تحلّ لعنات هذه الدماء والجرائم على العالم؟
كانت غزة أكبر اختبار للضمير الإنساني٬ اختبار للعالم المتحضر، اختبار فشلنا فيه بشكل ذريع٬ ولا نسأل الله اليوم إلا أن يرحم أهل غزة وينهي مأساتهم ويجبر كسرهم٬ وأن يحل لعناته على الصامتين والمتخاذلين وكل الذين شاهدوا الموت يقطف أرواح أطفال غزة دون أن يحركوا ساكناً٬ خشية من إغضاب أمريكا وربيبتها “إسرائيل”.
لكن التاريخ لا ينسى.. والدماء لا تجفّ دون أن تترك لعناتٍ تطارد من تجاهلها أو استهان بها. أطفال غزة الذين تجمدوا حتى الموت سيظلون شاهداً على سقوط البشرية، وعلى عالمٍ امتهن الكذب حين تشدق بحقوق الإنسان. صحيح أن أطفال غزة يموتون اليوم لأنهم أضعف من مواجهة البرد الذي تُركوا فريسة له٬ ولكن لأن العالم كله أضعف من مواجهة حقيقة الظلم والجبروت والطغيان.. وسيكتب التاريخ أن القرن الحادي والعشرين هو عصر انتحار الضمير على مذبح غزة.
أما نحن، لا عشنا إن نسينا صرخة الرضيع الذي مات من البرد، أو نظرة الطفلة التي دفنتها “إسرائيل” تحت الأنقاض. لا عشنا إن نسينا صور المستشفيات المحترقة، أو وجوه الأطباء الذين قُتلوا أو اعتقلوا وعذبوا لأنهم ثبتوا على مواقفهم ورفضوا التخلي عن مرضاهم أو جرحاهم، لا عشنا ولا كنّا إن نسينا ولم نورّث هذه الثارات لأطفالنا وأحفادنا إن استطعنا، إن لم نزرعها في قلوبنا وقلوبهم كالخمير في العجين: لن نغفر ولن نسامح.