أيمن الجدي.. ماذا سنقول الآن لطفلك الأول؟ هل تأخرَ خروجك للحياة، أم استعجل والدك وهو ينتظرك أيها اليتيم جداً؟
ومن عجائب الإبادة في غزّة أنك ستجد من يقول لك حين تبدأ الإدراك لقد كان بينك وبين أن يحضنك والدك صاروخ، والصاروخ يُمكن لحجمه أنْ يخيّل لك أنّكَ يمكن أن تقفزَ من فوقه أو ترسم عليه بقلم السبورة وأشياء أخرى كثيرة، لكنّه ليس كذلك، إنّه قتل اليد الأولى التي تحبّك في حياتك، سيجعلكَ ذلك تتعرف على ملايين القصص المشابهة لقصّتك، وستعرف أنّك لست الوحيد في مدينتنا المنكوبة، لكنني لا أعدك أنّ ذلك سيخفف عنك ألمك!..
أشياء كثيرة أحبّها سرقها الاحتلال منّي وظننتُ لأنّ ذلك البلاء جمعيٌّ وليس فردياً بأنّه سبب يخفف عني هذا الحزن الهائل، ولكن اكتشفت أنّ ألمي ولو شابهه مليون ألم، سيظلّ ألمي الفرديّ الكبير، ولن يشبهه أيُّ ألم آخر مهما حاول الآخرون إخباري بذلك..
وحين ستكبر ستدرك أكثر كم أنّ غزّة تستحق الحياة، لأنّك ستكون من الناجين القليلين الذين سيكملون روايتنا العظيمة، وأنت بالأخصّ لا تدع يد والدك المتلهفة لك تشعر بالبرد، كن وفياً لذلك المايكرفون الذي دفع والدك روحه ثمناً له وهو يحاول إيصال حقيقة الإبادة الجماعية في غزّة مثل 200 صحفي آخر اغتالهم الكيان الصهيوني أيضاً بدمٍ بارد!
ستقرأ الكثير من القصائد وستعرف الكثير من الشعراء الفلسطينيين وكذلك الروايات الجميلة لكتاب فلسطينيين رائعين، وستسمع المواويل والأهازيج الشعبية، وستصفق لمسرحيّةٍ حملت همّ الوطن وأبدع مخرجها في تقديمها للجمهور، ولكن ستبقى هنالك قصة وحيدة أعظم من كل هذا في حياتك: “أنّ الاحتلال منع والدك من عناقك الأول، وأنّه لا تهمة له سوى أنّه انتظرك على باب المشفى ليشمّك لأول مرّة”.
نعم يبتكر الاحتلال في صُنع المأساة الفلسطينية، إنّها تتفوق على الدراما العربية والغربية، إنّ أيّ كاتب سيناريو في أيّ عالمٍ كان، لن يخطر على باله قصة واحدة من قصصنا المفجعة..
لا تجعل أحداً يقنعك بأنك تأخرت في الخروج إلى العالم، ولو خرجت قبل ساعاتٍ فقط كنت ستحظى بصورتك الأولى مع والدك قبل قصفه بدمٍ بارد، أخبرتني صديقتي قبل أيام وهي نازحة على شاطئ البحر بأنّ عروساً وقفت على شاطئ البحر بالقرب من (تبّة النويري) في النصيرات، وهي تلة مرتفعة قليلاً عن سطح البحر لها إطلالة ساحرة إذا وقفت عليها تشعر بأنّ الكون يغمرك، لكننا لم نعد نشعر بذلك الآن، إذا وقفت لتحظى بذلك الشعور القديم، تقتلك رصاصة، أخبرتني بأنّ عريسها بعد أن اجتاز نيت ساريم (ممر الموت) كما تصفه صحيفة هآرتس العبرية باعتراف قادتها في تسميته، قتلته رصاصة على تبّة النويري، تلك التلة التي تستطيع فوقها أن تحتضن العالم، كانت تلك العروس تشبهك أيها الصغير، هي كانت تنتظر عبور عريسها وأنت كنت تنتظر أن تقرأ سورة الحياة في عيون والدك الذي يبدو مليئاً بالشغف والحياة، ولكنّه الاحتلال، يكره المعنى الذي يخبئه الانتظار في عيونِ المنتظِر، يكره فكرةَ أن تنتظر الحبّ والفرح والسلام، هو فقط يفهم إذا حاول أن تنتظر على هذه الأرض فانتظرْ رصاصة لتقتلك أو صاروخاً ليفتتك، وكيف سيفهم الاحتلال انتظاراتنا وهو مجرد مارق مأجور للقتل، ويظلّ السؤال الأصعب في حياتنا، منذ أكثر خمسة وسبعين عاماً، هل توقفت فلسطين عن انتظار أهلها؟ إننا نستمر في الحياة وابتكار المقاومة لأننّا نعرف بأن فلسطين تنتظر .. ذلك الانتظار الذي لا يمكن لمليون صاروخ أن يئده!
أيّها الصغير، كن كفلسطين. وإياكَ أن تقتل شغف الانتظار في داخلك مهما حدث!