Blog
الكاتب: جودت فلاحة
منذ انطلاق عملية ردع العدوان التي انتهت بنصرٍ كبير للثورة السورية خلّص سوريا من حكم الأسد وأحدث -وسيحدث- هزة كبيرة في المنطقة كلها، انطلقت معها عاصفة من التحليلات تحاول استقراء العملية وتنظر في دوافعها وأبعادها ومآلاتها (التي بات كثيرٌ منها معلومًا للجميع). امتلأت الصحف والمنصات بفيض من الاستنباطات والقراءات، وهواء الشاشات المتلفزة (لتلفزيون سوريا قصب السبق في تغطيته المتميزة) بالمحللين والمعلقين والمنظرين المتنوعة وجهات نظرهم وخلفياتهم، مع تفاوت في الجد والعمق في جميع ما يطرح. يطول الكلام إن أراد المرء أن يحصي الاتجاهات والأفكار حول العملية، غير أن فرضية الارتهان الخارجي التي تنتمي إلى مخيال نظرية المؤامرة ومنهجها (الأحرى لا منطقها ولا منهجها) كانت حاضرة بقوة بالطبع، ومنتشرة بوضوح.
فوقت العملية/ حجمها/ جغرافيتها/ مداها/ أبطالها/ أهدافها/ عمقها/ طولها/ عرضها/ ضحاياها/ داعموها (إن لم يوجدوا يفترضوا رأسًا)/ اتجاهاتهم/ دول الإقليم/ إقليم الدول/ تأثيرها السياسي…. الجيوسياسي… العسكري…/ ما وراء الأكمة… ما أمامها… ما فوقها… ما تحتها… (تصلح هذه في كل مكان)، كل ذلك وأكثر مع حفلة صاخبة من معجم الملف السوري (ومعاجم السياسة والعسكرة) متكدسة ومتكردسة في أحشاء بعضها البعض كيفما كان وعلى أي وجه، لتكوّن شكلًا مشوهًا من مواد مقروءة ومرئية تلقى في رؤوس الناس المساكين.
قد يفهم شيءٌ من حضور مثل هذه التحليلات على هواء التلفاز، ففي اليوم أربع وعشرون ساعة لا بد من ملئها كلها، ولا يمكن لأي محطة أن توفّر عددًا من الباحثين أو المعلقين الجادين يغطي كل الوقت، ولا بد من تنويع في الآراء ليستزيد المتلقي ويقارن، غير أن التعجب لا ينقضي من تبني كثير من المثقفين والناشطين لهذه الفرضية وحدها ودفاعهم عنها وإبعاد غيرها. أصحابنا أصحاب تلك الفرضيات والمدافعون عنها يبدون أشباهًا دائمًا في جميع ما يتفاعلون معه (للأمانة يتفاعلون مع كل حدث) مهما اختلف الزمان والمكان والشخوص، يتكلمون بقاموس واحدٍ ولغة تحوم في التشكك حتى في ذرات الهواء، متأهبون لإدغام كل ما يحدث في الحاضر وما حدث في الماضي وما سيحدث في المستقبل، في معلبات تفسيراتهم التي تتسع كل شيء، وكل شيء لا بدّ يحتاج إلى تفسير، لينتجوا لنا مزيجًا عجائبيًّا من الغثاثة واللغوصة، والتفكير الرغبوي، والكسل عن البحث، والتكرار الممل حدَّ الغثيان، والاستخفاف بالأفهام، وتحميل الحدث أو أبطاله ما لا تحتمله أفلام هوليود وبوليود.
لا مكان للبديهي والواضح القريب في عرف نظرية المؤامرة، ولا في خصوصية للحدث الضخم وفي تتابع أحداث تليه، وتسلسلها الذي ليس من شأنه أن يكون منطقيًا بالضرورة، ولا في غرائز البشر وطبائع الأشياء وتفاوت الأفهام والثقافات والسيكولوجيا الجمعية والفردية، ولا في سنن دوام الحركة والتغير، وما يسبقها من تعاقب الظروف التي تؤدي إليها، كل تلك المعطيات تنمحي أو تنمسخ لصالح اختزال خيالي يفسر كل شيء من خارجه. لا يمر الكثير من الوقت حتى تعم مثل تلك الفرضيات ونتائجها، ويكثر جمهورها ومؤيدوها لتصل إلى حدود اليقين، وتفرض نفسها كحالة أمر واقع، لا يستطيع البحث الجاد وأصحابه -غالبًا- الإعراض عنها أو تجاوزها، فيضطر في مرحلة ما أن يشتبك مع قواعد تلك النظريات وما أفرزته، ومع فرضيات أصحابها واستنتاجاتهم، ليكشط عن الواقع والتاريخ ما تكاثف فوقه من وحول شوهته بل غيرت معالمه.
بالوسع ضرب أمثلة عن مثل هذه الجهود البحثية واضطرارها لتفنيد أوهام وفرضيات زائفة شاعت بين الباحثين والناس، مثلا: بحث توماس هيغماير “القافلة” عن عبد الله عزام ورفاقه المقاتلين الأفغان العرب وتبيينه ضعف الافتراضات التي ادعت تلقيهم دعمًا أميركيًا بدون دليل، وكذلك أبحاث يوجين روغان المتميزة عن فترة انهيار الدولة العثمانية والحرب العالمية الأولى وتكون دول المشرق العربي، وهذه الحقبة ملعب أثير لكتّاب نظرية المؤامرة، وغير ذلك مما يتمثل به… والحق أن الأبحاث الجادة في معظمها تميل في عصب بنائها إلى التفسير والمعالجة الداخلية للظواهر والأحداث.
بالعودة إلى عملية ردع العدوان، ومع الاعتذار من جميع المحللين والمعلقين المخالفين لما يلي من سرد غير سابح في دوامة الشك والريبة وفرضيات الارتهان الدائمي للخارج:
عملت هيئة تحرير الشام بعدما سيطرت على حيز جغرافي معلوم عند متابعي الشأن السوري، لا ينازعها فيه أي فصيل عسكري آخر، على مضاعفة قوتها البشرية في الجناح العسكري، وكذلك تكثير عتادها العسكري بالأساليب المتاحة، وتطوير ما استطاعت عليه وأمكن تأمينه من تقنيات عسكرية وشبه عسكرية، اشتغلت في ورش محلية بسيطة وظلت محدودة بالقياس إلى المنطق التقني العسكري للدول (حققت طائرات الشاهين في المعركة بعض النتائج الملحوظة لكن ذلك لا يعود لكفاءتها التقنية). وفي حين انعدم أي مشروع أو رؤية أو أفق عسكري (وغير عسكري للأسف) لفصائل الجيش الوطني، بدت الهيئة بتماسك تنظيمها وتوحد صفها مُجيدة لرسم شيء من الأفق المستقبلي، والذي تبين بالتحضير للعملية منذ سنوات بحسب تصريح قائدها “أحمد الشرع/ أبو محمد الجولاني”.
ثم منذ عملية طوفان الأقصى ظلت الهيئة تتحين فرصة لبدء عملها العسكري مع جس نبض الجار تركي الذي أظهر على الأغلب عدم تحمسه (والحق أن أغلب المعنيين بالشأن السوري لم يكونوا متحمسين ولا واثقين بالعمل العسكري وبمكن مراجعة طيف واسع من الآراء التي كتبت في هذا الباب)، حتى اتخذ قرار العمل بعد قصف لقوات النظام على أريحا واستشهاد عدد من المدنيين، فتشكلت غرفة عمليات عسكرية ضمت معظم الفصائل العاملة في الشمال السوري، قادتها هيئة تحرير الشام وكانت رأس الحربة فيها، دون دعم عسكري أو تغطية سياسية من أي دول خارجية (أدلة ذلك كثيرة واضحة ومن يفترض عكسها فليأت بأدلة منطقية يُبنى عليها)، بل أكثر من ذلك كان التقرب من نظام الأسد سياسة حلفاء الثورة القدماء.
بدا انهيار قوات النظام هائلًا لم يتوقعه أكثر المتفائلين، وتفاجئ الجميع (كما يحدث دائمًا في الأحداث العظام) حتى أبطال العملية بالمساحات التي سيطروا عليها في وقت قياسي، وقد شارك الطيران الروسي في إسناد القوات السورية (بعكس ما قيل أنه لم يشارك) التي شغلت أقصى طاقتها المدفعية والجوية، كذلك قصفت خطوط التماس وساحات القتال ولم تسلم مراكز المدن والمشافي من عمليات الانتقام الجبانة، ومضى المقاتلون يفتحون المدن تباعًا في قصة باتت مجرياتها معروفة للجميع.
هكذا تسلسلت الأحداث بهذه البساطة (أي البعد عن التكلف في التفسير، فالحدث ليس بسيطًا) بعدما اختمرت ظروفها وتهيأت أسبابها. بالتأكيد سيكتب الكثير الكثير حول الأيام الإحدى عشر، وننتظر الجدة والعمق في تناولها بعيدًا استنتاجات معلبة كسولة وفرضيات بلا أدلة. وبعيدا عن افتراض حتمية التدخل الخارجي في نجاح التحرير.