سياسة
في خضم العامين الماضيين، ومع تسارع الأحداث الجيوسياسية في منطقة الساحل، لم تتوقف أبواق الإعلام الدعائي الغربي ومن يواليه عن بث نذر الشؤم والتنبؤ بانهيار دول الساحل الكبرى، مالي، بوركينا فاسو، والنيجر. زعموا أن هذه الدول ستنهار في غضون ثلاثة أشهر، وفي أفضل الأحوال خلال عام. لكن هذه التوقعات لم تكن أكثر من أمنيات.
في خضم العامين الماضيين، ومع تسارع الأحداث الجيوسياسية في منطقة الساحل، لم تتوقف أبواق الإعلام الدعائي الغربي ومن يواليه عن بث نذر الشؤم والتنبؤ بانهيار دول الساحل الكبرى، مالي، بوركينا فاسو، والنيجر. زعموا أن هذه الدول ستنهار في غضون ثلاثة أشهر، وفي أفضل الأحوال خلال عام. لكن هذه التوقعات لم تكن أكثر من أمنيات مبنية على تحليلات سطحية، أو رغبات متأصلة في بقاء الاستعمار بأشكاله الجديدة، حيث دأب أولئك “الرسل” على تحويل تمنياتهم إلى تقارير وتحليلات، مرددين ما تروجه الصحافة الغربية كحقائق مسلّمة.
لقد بلغ الأمر ببعض هؤلاء أن وصفوا الأنظمة الجديدة في دول الساحل بأنها لن تصمد أمام التحديات الأمنية أو الاقتصادية. بل ذهب موالو الأنظمة الساقطة، والمستفيدون من الحقبة الاستعمارية في حلتها الجديدة، إلى تصوير المشهد وكأن هذه الدول ستقع فريسة سهلة للجماعات المتطرفة التي ستسيطر على عواصمها. وتفنّنوا في الترويج لفكرة أن عزل زعماء مثل محمد بازوم في النيجر، الذين لطالما كانوا بيادق للسياسات الغربية، سيؤدي إلى طوفان من الفوضى والدمار.
غير أن الواقع على الأرض يسطر رواية مختلفة تمامًا. فمنذ استقلالها عن الهيمنة الغربية وتحررها من الاتفاقيات الاستعمارية، حققت دول الساحل نقلة نوعية في وقت قياسي. أظهرت الأرقام أن هذه الدول ليست فقط على المسار الصحيح، بل إنها نجحت في إعادة تشكيل المشهد الأمني والسياسي والاجتماعي في المنطقة. استطاعت الحكومات الجديدة تحقيق استقرار سياسي ملحوظ، وخلق وئام اجتماعي طال انتظاره، فضلاً عن دعم شعبي غير مسبوق ومشاريع إصلاحية وتنموية أثبتت فاعليتها.
أما من كانوا يتقاضون أجورهم من مؤسسات غربية مقابل ترويج دعايات تهدف إلى إبقاء هذه الدول في دائرة التبعية، فقد باتوا مكشوفين. هؤلاء الذين اعتادوا شغل مناصب استشارية دون كفاءة تُذكر، وجدوا أنفسهم على هامش الأحداث، فاقدين مصادر رزقهم، ليُصبحوا من أشد منتقدي الأنظمة الجديدة. لقد أخفقت حملاتهم في زعزعة استقرار تلك الدول أو تقويض إنجازاتها، فشعبية الحكومات الجديدة أثبتت أنها ليست مجرد حالة عابرة، بل تعبير أصيل عن رغبة الجماهير في طي صفحة التبعية وفتح فصل جديد من السيادة والكرامة الوطنية.
هذا المقال يهدف إلى تسليط الضوء على هذه النقلة النوعية التي حققتها دول الساحل، وكيف استطاعت مواجهة التحديات الداخلية والخارجية رغم الدعايات المغرضة. إنها رسالة إلى رسل الشؤم: دول الساحل ليست فقط باقية، بل هي تزدهر بخطى ثابتة.
تحولات أمنية غير مسبوقة في دول الساحل: من أتون الفوضى إلى استعادة السيادة
على مدار سنوات مضت، كانت دول الساحل الأفريقي، وعلى رأسها مالي وبوركينا فاسو والنيجر، تُكابد أزمات أمنية طاحنة، جعلت من استقرارها حلماً بعيد المنال. جمهورية مالي، على سبيل المثال، عانت من غياب شبه تام لسلطة الدولة، حيث خضعت نصف أراضيها لسيطرة جماعات إرهابية كداعش في الساحل والصحراء، وتنظيم القاعدة في غرب أفريقيا، بالإضافة إلى الحركات الانفصالية المعروفة بـ”أزواد”، التي سيطرت على مدن كبرى في الشمال. في خضم هذه الفوضى، برز الجنرال عاصمي غويتا بانقلابه العسكري الذي غيّر قواعد اللعبة.
مع وصول السلطة الجديدة في مالي، لم يكن الطريق سهلاً، بل اعتمدت البلاد استراتيجية متوازنة لتنوع الحلفاء، حيث أبرمت اتفاقيات عسكرية مكّنتها من اقتناء أسلحة متطورة من روسيا والصين. لكن النقطة الفارقة كانت الطائرات المسيّرة التركية من نوعي “بيرقدار” و”أكنجي”، التي قلبت الموازين على الأرض. بفضل هذه التكنولوجيا، استعادت مالي السيطرة على كامل أراضيها، وكانت استعادة مدينة كيدال، معقل المتمردين، في نوفمبر 2023 بمثابة إعلان لبداية نهاية فوضى الشمال. حتى مع خواتيم عام 2024، نجحت القوات المالية في عمليات نوعية، كان أبرزها في مدينة تين زاويتين، التي أسفرت عن اعتقال القيادي البارز أحمد آغ ديتا، أحد أبرز قادة داعش في الصحراء الكبرى، في عملية عسكرية وصفت بالنوعية في منطقة ميناكا. إنجازات ما كان أحد ليتصورها قبل خمس سنوات. وتستمر مالي رحلتها لاستعادة السيادة على كامل أراضيها بخطى محكمة.
بوركينا فاسو: من شفير الهاوية إلى استعادة التوازن
لم تكن بوركينا فاسو أفضل حالاً، فقبل تولي الكابتن إبراهيم تراوري السلطة، كانت الجماعات الإرهابية تسيطر على ثلثي أراضي البلاد، تاركة الحكومة المركزية تحت رحمة العاصمة واغادوغو ومدينة بوبو ديولاسو. لكن مع وصول تراوري إلى الحكم، تغيّر المشهد بشكل دراماتيكي. بل حققت بوركينا فاسو نجاحات أمنية لافتة في فترة وجيزة، وصلت حد إشادة المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، رغم انسحاب بوركينا من عضويتها واعتبارها أداة غربية للتدخل في شؤونها. ففي أغسطس 2024، عبّر الرئيس الدوري لإيكواس، عمر سيسوكو امبالو، رئيس غينيا بيساو، عن إعجابه بالتقدم الأمني قائلاً:
“نحيي الحكومة على التقدم الذي أحرزته في استعادة الأمن والاستقرار في مناطق واسعة ضد الإرهابيين. كما ندعو الجميع إلى حشد الجهود لدعم شعب بوركينا فاسو الشقيق.”
ورغم التوتر السياسي بين بوركينا والمنظمة، فإن هذه الإشادة تأتي اعترافًا بنجاحات ملموسة على الأرض، أثبتت قدرة الدولة على إعادة الأمن والاستقرار بجهودها الذاتية، لتفرض احترامها حتى على من تراهم خصومًا. فخلال عامين فقط، عاد الأمان إلى مناطق شاسعة، وشهدت البلاد عودة أكثر من 673,500 نازح إلى ديارهم وفق تقارير صادرة في مايو 2024. كما أعيد فتح 1100 مدرسة كانت مغلقة بفعل الصراع، واستأنفت الحياة الطبيعية في مناطق كانت معزولة تماماً. اليوم، بات التنقل بين المناطق التي كانت مرتعاً للإرهاب أمراً طبيعياً، وهو ما يؤكد عودة الأمن والاستقرار، وهي حقيقة تعترف بها حتى خصوم السلطات الجديدة في واغادوغوا.
النيجر: استقرار أمني ومسار مزدوج للتعافي
أما النيجر، فلم تكن الأوضاع الأمنية فيها متدهورة بالقدر ذاته كجيرانها مالي وبوركينا فاسو، لكنها شهدت قفزات نوعية في تعزيز الأمن. اعتمدت السلطات على مسارين متوازيين: العمليات العسكرية النوعية ضد التنظيمات الإرهابية، والمسار المدني لنزع السلاح وبناء السلام. فحتى مع شهر ديسمبر الجاري، شنت القوات المسلحة عملية ناجحة في منطقة تيلابيري غربي البلاد، أسفرت عن استعادة السيطرة الكاملة على المدينة، التي كانت معقلاً لتنظيم داعش. ووصفت التقارير العملية بأنها قد تكون بداية لإعلان تيلابيري منطقة خالية من الإرهاب بحلول عام 2026.
وعلى صعيد المسار المدني، سجلت منطقة أغاديز حدثاً تاريخياً مع تسليم عناصر من مجموعتين مسلحتين أسلحتهم، في خطوة تعكس التحول نحو السلام في النيجر، حيث كشف التلفزيون الرسمي مع أواسط شهر نوفمبر من العام الجاري عن مجموعة من الشباب المنتمين إلى جبهة مسلحة، بقيادة محمود صلاح، سلموا أسلحتهم طوعًا في منطقة ديركو التابعة لإقليم بيلما بمنطقة أغاديز. وشهدت مراسم تسليم الأسلحة حضورًا لافتًا من ممثلي الإدارة المحلية في بلدية ديركو، وقادة قوات الدفاع والأمن، إضافة إلى عدد من الزعماء التقليديين والدينيين، مما يؤكد أهمية التنسيق بين الدولة والمجتمع المحلي لتحقيق المصالحة الوطنية.
وفي تطور ذي صلة، استسلم إدريسا ماداكي، المتحدث الرسمي باسم “جبهة التحرير” المسلحة التي كانت تطالب بإطلاق سراح الرئيس المعزول محمد بازوم، بعد يومين من استسلام مجموعة من المقاتلين المنتمين إلى الحركة. وقد تم استدراجهم إلى حضن الدولة بفضل جهود مواطن يُدعى أدوا محمد، الذي لعب دورًا رئيسيًا في إقناعهم بالتخلي عن السلاح، بدعم من وجهاء منطقة كَوار.
هذا التناغم بين العمليات العسكرية التي تنفذها القوات المسلحة ضد الجماعات الجهادية، والجهود المجتمعية التي تقودها الشخصيات المؤثرة لإعادة الحركات المسلحة إلى المسار السلمي، يشير إلى استراتيجية مزدوجة تحقق الاستقرار في البلاد، وهو اختراق عجزت عنها الحكومات السابقة المتعاونة مع فرنسا. كما عززت هذه المبادرات الأمل في إنهاء العنف وفتح صفحة جديدة من الاستقرار.
الخاتمة: أجد أنه من الضروري الذكر أنّ هذه الإنجازات الأمنية، التي تحققت في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، لم تكن لتتحقق دون تضحيات جسيمة في صفوف القوات المسلحة. لكنها بالمقابل عكست إرادة سياسية حقيقية لاستعادة سيادة الأراضي وإرساء الأمن. ورغم التحديات، فإن المؤشرات الحالية توحي بأن هذه الدول قد استعادت زمام المبادرة، ونجحت في وضع أسس متينة لاستقرار أمني طويل الأمد، يفتح المجال لتحقيق تنمية مستدامة تنقل شعوبها من أتون الفوضى إلى عصر جديد من السلام والازدهار
وما استعرضناه حتى الآن يكشف زيف نبوءات الهلاك والفوضى التي رعتها أبواق الأنظمة الساقطة وإعلام القوى الغربية المستاءة من طردها، وعلى رأسها فرنسا. هذه القوى لم تتوقف عن الترويج لانهيار الدول بعد انقلابات الساحل، محذرةً من الفوضى والدمار. ومع ذلك، فإن التطورات الأمنية على أرض الواقع، واستعادة الحكومات السيطرة على مساحات شاسعة من أراضيها، أسقطت كل هذه المزاعم في اختبار الواقع.
لكن الغريب أن تلك القوى لم تنسحب، بل بقيت تنتظر فرصتها. فكلما حدثت خسارة بشرية في صفوف القوات المسلحة – وهي أحداث نادرة مقارنة بالخسائر الأسبوعية قبل وصول حكومات الكونفدرالية إلى السلطة – أثارت أبواقها ضجة كبرى، محاولةً ربطها بالانقلابات العسكرية. إن مثل هذا التناول الإعلامي، رغم ندرة الأحداث، يكشف سوء النية وافتقارًا تامًا للنزاهة.
فقد أثبتت دول كونفدرالية الساحل أن الأزمات، مهما كانت ضراوتها، يمكن أن تصبح نقطة انطلاق للتحول. وبينما توقع البعض انهيارًا سريعًا لعواصم تلك الدول على يد التنظيمات الموسومة بالإرهاب، تمكنت اتحاد دول الساحل بالتعاون الأمني المشترك من استعادة التوازن في الأمن الإقليمي، بل وتجاوز التوقعات، مما يُثبت إسقاطها نبوءات الشؤم من رسل الفوضى والدمار وزبانيتهم من الناشطين الأفارقة.
هذا المقال جزء من سلسلة المقالات التي هي بمثابة إجابات عن سؤال ” ما الجديد عن كونفدرالية الساحل؟” وسيتناول الجزء الثاني الإنجازات الاقتصادية والتنموية في هذه الفترة الانتقالية، وسيكشف وجهًا آخر من هذه التحولات الكبرى. وأعتقد أن هذه الإنجازات ستكون بمثابة مفاجأة حقيقية للقراء، فهي ليست مجرد تحولات عابرة، بل إرهاصات لنهضة ملحمية تعيد رسم معالم منطقة الساحل.