سياسة

نيرون مات ولم تمت روما

ديسمبر 24, 2024

نيرون مات ولم تمت روما

 “الَّذِي جَعَلَ الْعَالَمَ كَقَفْرٍ، وَهَدَمَ مُدُنَهُ، الَّذِي لَمْ يُطْلِقْ أَسْرَاهُ إِلَى بُيُوتِهِمْ؟” إشعياء،١٧

قلتُ لصديقةٍ قبل أشهر، تعليقًا على هدم الجبانات التاريخيّة: سيهدم المدينة القديمة كلّها، سيحرقها لو استطاع (بسكّانها الذين لا يشبهون ما يريد، الفقراء والمتعبين، والغاضبين) سيحرقُ حاضرها وتاريخها، وحتى وجودها في الكتب-وربّما اسمها ذاته- ويبقى على مدينة أشباحه في الصحراء، بشعبه هوَ الذي سيحكم بهم ويحكمهم ويجبي منهم، ثم يضع تمثاله على مداخلها عنوانًا لانتصار الخراب.


رمتني الصديقةُ بسوادِ المعتقلِ الذي سوّد كلّ نظر، وبالمبالغة العاطفيّة لكراهيتي له ولسلطته، لكنّها قبل يومين، بعد الاستعراض السّفيه الذي كان، أظنّها راجعت تقديرها، وجمّعت بعض الخيوط في ذهنها لتدرك حقيقة الحاصل، بعد أن رأت تماثيله على الأبواب، ومنحوتاته على الجدران، وسط الزخارف والعمدان والأبهة المبتذلة القبيحة، والجرافات تهدم في مباني المدينة القديمة وتقتلع أشجارها، كما تحاول اقتلاع الناس من أرضهم.


ليست مجرّد سمسرة و”تقليب قرشين” في كلّ ما يمكن الحصول منه على قرشين، ولا تورّط في مآزق اقتصاديّة لا تنتهي بالشحاتة والاقتراض وبلّاعة صندوق النقد والبنك الدولي، ولا حتى غباء أو فشل في الإدارة، هذه كلّها تحدِثُ سقطة أو اثنتين أو عشرة، لكن هذا النسف المنهجي لكلّ ما هو مصري، بدءًا من إنسانها بما كان فيه من سمات (لا أتجاهل سلبياتها هنا، لكن أتحدّث عمّا لحق بالنبيل الباقي منها) بل ونسف الـ وجود، والـ تاريخ لأي عصرٍ مرّ بهذا البلد وتراث ومعمار وثقافة وفنون (النتاج والمنتجين) … وقبل هذا ومعهُ: التخلّص منها كجغرافيا، بالتفريط في أرضها بيعًا أو تجابنًا أو مقايضةً(تيران وصنافير، الورّاق، رأس الحكمة، رأس جميلة) وتجفيف منابع الحياة فيها (سدّ النهضة) حتى تنتهي تمامًا.


كأنّ المقابر كانت تحايل الناس تمسّكًا بآخر ملامح الحياة في هذه البلدة (يا للمفارقة!) تشبّثوا بموتاهم واستندوا على جبّاناتهم التي بقيت منذ الأزل، كما صدّقوا عن مدينتهم ذاتها من قبل، على اعتبار أنها الخطّ المقدّس الذي لا يُمسّ، بعد التفريط في كلّ ما قبلها وصولاً إليها، فحين تهدّمت تهدّم معها الأمل والغد وتهدّموا هم كذلك، كشمشون وشعرِه المغدور، وكأن حياة كريمة وشهادات قناة السويس وأمثالهما “دليلة” التي أوهمته بالحب مأجورةً من أعدائه حتى أوقعته قضت عليه.


“نيرون مات ولم تمُت روما.. بعينيها تُقاتل”


تهدّمت المقابر، وتهدّمت هذه الروح التي كانت تتمسّك بالحياة معها، لكنّ الحقيقة -بعيدًا عن المجاز- أنهم مازالوا على قيد الحياة، ولو تشبهها في ظاهرها دون جوهرها، وأنّ شيئًا فيهم يمكن أن تُنفَخ فيه الروح، فيقوم مرّةً أخرى من تهدّمه، ليعيد بناء مدينته ويقتصّ من قاتلها الذي يغنّي على أطلالها مازال، بعد أن جوّعهم وحبّسهم وقتّل منهم من قتّل.


لا أسفه من استعراضٍ كهذا، ولا أحمقَ ممّن يتعامل معه بأي منطقٍ سوى “تطليع اللسان” المستوجب الردّ، لكن لعلّها صفعة الإيقاظ الأخير، قبل أن يصحو العالم على خبر ” نيرون يحرق المدينة بسكّانها ويرقصُ على صراخهم الأخير قبل أن يحلّ صمتُ الموت”.

 

شارك

مقالات ذات صلة