مدونات
الكاتب: عبدالرحمن حسنيوي
يقول المفكر المصري عبد الوهاب المسيري (1938 – 2008) في كتابه ” لعلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة”: “أنا أعرّف العلمانية بأنها ليست فصل الدين عن الدولة، وإنما فصل مجمل حياة الإنسان عن جميع القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، بحيث يتحول العالم إلى مادة استعمالية يوظفها القويّ لحسابه”.
تُعتبر العلمانية secularism من أكثر المفاهيم الفكرية إثارةً للجدل في السياق الغربي والإسلامي، فقد نشأت العلمانية كنتيجة لصراعات تاريخية معقدة بين الكنيسة والدولة في أوروبا، حيث أصبحت أداة للتحرر الفكري والاجتماعي والسياسي، ومع انتقال هذا المفهوم إلى العالم الإسلامي، برزت إشكاليات متعددة حول ملاءمته للتراث والتقاليد الإسلامية وتركيبته الثقافية والاجتماعية والإثنية، يناقش هذا المقال الجذور التاريخية للعلمانية، تطورها الغربي، وتأثيرها في السياق الإسلامي، مع تسليط الضوء على تحليل عبد الوهاب المسيري لمفهومي العلمانية الجزئية والشاملة.
في السياق الأوروبي، ارتبطت العلمانية بحركة التنوير التي دعت إلى تحرير العقل والعلوم من قيود الكهنوت، فكانت هذه الحركة رد فعل على الهيمنة الكنسية في العصور الوسطى (المظلمة)، حيث سيطر الفكر الكهنوتي على الدولة والمعرفة والمجتمع، عرّف المفكر الفرنسي موريس باربييه Maurice Barbier (1862 – 1923) العلمانية بأنها الفصل بين الدين والحقائق الدنيوية، مما يعكس رغبة في تحييد الدين عن المجالات العامة مثل السياسة والعلوم.
تشكلت العلمانية على مستويين أساسيين: الأول هو العلمانية الأنجلوسكسونية secularism التي تسعى لفصل الدين عن الدولة مع الإبقاء على بعض القيم الدينية في الحيز الخاص، والثاني هو العلمانية الراديكالية الفرنسية laic التي تهدف إلى إقصاء الدين تمامًا من كافة مجالات الحياة بما فيها الخاصة، وهذا ناتج عن توتر الذي كان قائم في فرنسا بين الكنيسة والشعب بعد الثورة الفرنسية سنة 1789، ومن بين الشعارات التي رفعها الثوار “اِشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسّ”.
مع انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي، جاءت محملة بإرث استعماري وسياق مختلف تمامًا عن سياق نشأتها في الغرب، فقد بدأت هذه الأفكار في العالم الإسلامي مع الحقبة الاستعمارية التي انطلقت في النصف الأول من القرن 19، حيث حمل الاستعمار الأوروبي مفاهيم جديدة أبرزها فصل الدين عن الدولة، ومع ذلك، فإن السياق التاريخي والاجتماعي في العالم الإسلامي، المتميز بدمج الدين في جميع نواحي الحياة، أدى إلى تباين كبير في استقبال هذه الفكرة.
تاريخيًا، ظهرت العلمانية في العالم الإسلامي عبر تجارب متعددة، ففي مصر ظهرت مع الحملة الفرنسية (عملية عسكرية قادها الجنرال الفرنسي نابليون بونابرت على مصر عام 1798) التي أدخلت مفاهيم حديثة أثرت على النخبة المصرية. وفي تركيا، تبنت العلمانية الشاملة على يد مصطفى كمال أتاتورك الذي ألغى الخلافة الإسلامية العثمانية في عام 1924. أما في المغرب العربي، فقد انتقلت القوانين العلمانية تدريجيًا خلال فترة الاستعمار الفرنسي الذي بدأ مع احتلال الجزائر سنة 1830، هذه التجارب المختلفة عكست التناقضات التي واجهت العلمانية في العالم الإسلامي.
أمام هذه التناقضات، انقسمت ردود الفعل في العالم الإسلامي إلى تيارين رئيسيين: الأول هو القبول المشروط، حيث رأى بعض المفكرين والفقهاء أن العلمانية الجزئية قد تساهم في التقدم العلمي والاجتماعي بشرط احترام القيم الدينية، أما الثاني فهو الرفض الكامل، حيث عارض التيار الإسلامي المحافظ العلمانية باعتبارها تهديدًا للهوية الإسلامية.
قدم عبد الوهاب المسيري تحليلًا نقديًا عميقًا للعلمانية في كتابيه “العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة”، حيث يعتبر المسيري أن العلمانية ليست مجرد نظام سياسي، بل رؤية شاملة تهدف إلى استبعاد البعد الروحي من حياة الإنسان، ويرى المسيري أن العلمانية الجزئية قد تكون مقبولة كآلية سياسية لفصل الدين عن الدولة لكنها تظل محدودة، أما العلمانية الشاملة فهي مرفوضة تمامًا لأنها تلغي البعد الروحي وتُحوِّل الإنسان إلى كيان مادي محض.
يؤكد المسيري على أن السياق التاريخي الأوروبي الذي نشأت فيه العلمانية يختلف عن السياق الإسلامي، مما يجعل استيرادها كقالب جاهز يتجاهل الخصوصيات الثقافية والدينية في العالم الإسلامي.
فالدين الإسلامي يتسم بشموليته التي تدمج بين الروحي والمادي في إطار متكامل، هذه الشمولية تجعله في تناقض مع العلمانية التي تفصل بين المجالين، ومع ذلك يدعو بعض المفكرين إلى الاجتهاد لتقديم قراءات حديثة للإسلام تتماشى مع التطورات المعاصرة دون الإخلال بجوهر الدين. إن فهم العلمانية في العالم الإسلامي يتطلب استيعاب الفروق التاريخية والثقافية بين السياقين الغربي والإسلامي، بينما كانت العلمانية في الغرب وسيلة لمواجهة استبداد الكنيسة، فإنها في العالم الإسلامي تواجه دينًا يشكل عنصرًا مركزيًا في بناء الهوية الثقافية والاجتماعية، هذا التعقيد يجعل من الضروري البحث عن توازن يوفق بين القيم الدينية والانفتاح على التطور.
في الأخير، يُظهر تحليل عبد الوهاب المسيري أن استيراد العلمانية الغربية دون تعديل يُعد اختزالًا للواقع الإسلامي، ومن ثم فإن النقاش حول العلمانية في العالم الإسلامي يحتاج إلى مراعاة الخصوصيات الثقافية والدينية، وإعادة صياغة المفهوم بما يتناسب مع السياق المحلي.