آراء
بلد عزيز كريم، هو الأكبر بين أشقائه، مربط الفرس، وواسطة العقد، وعمود الخيمة، فقد كل مزاياه، فتضاءل حجمه، وصغرت كلمته، وتدهورت قيمته، وبات مثلًا للصَّغار على يد الصغار، يجوع شعبه ابن الأكرمين، الذي كان يطعم الآخرين، ويظمأ والنيل هبة الله له، يجري من تحت أقدامه، ويعيش أكثر من ثلثيه تحت خط الفقر فلا يملكون قوت يومهم ولا سقفا لبيوتهم ولا سترا لحياتهم ولا حيلة لأهليهم، وقد استشهد فيه من استشهد، واعتقل فيه من اعتقل، وجرح فيه من جرح، وعاش ذوو الثأر وأولياء الدم -إن عاشوا- تعساء تأكلهم مرارة الهزيمة، ثم بعد ذلكم كله، يطل عليهم الرجل الذي سبب ذلك كله، وهو الذي جوّع من بعد شبع، وأظمأ من بعد ارتواء، وخوّف من بعد أمن، فخرج في زينته، وسط قصره، يسير مختالا وحده، لا شريك له، كما يدور في عقله، لا أحد يسرق منه اللقطة، ولا أحد ينازعه في الظهور، مجنونا بامتلاك المشهد كاملا له، يتعالى وهو كل شيء أعلى منه، حتى أحذية التماثيل من حوله، تفوق رأسه، مبتسمًا في لزوجة، متباهيا في عطن، والقصر كأنما هو مضاهاة لقصر فرعون، كأنما أحدٌ ما استطاع فك لغز الرسوم الهندسية لعصره، فبنى قصرًا مقتبسًا منه فكرةً، وأفخم منه بناءً وتصميما، وأفحش منه خيلاء وعجبا، حتى جعل الأنهار تجري من تحته، والجامع الكبير يتوسط بمئذنتيه قبته، والطراز على سفينة فرعونية، يظن أنها تعصمه من الماء، ولا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم!
يمشي السيسي على الماء، ويدهس فوق رؤوس الناس في الفضاء، ويظن أنه امتلك الشمس في يمينه والقمر في يساره، والناس جوعى وعطشى ومرضى وأسرى، لكن لا يهم، من هؤلاء، وفيمَ يشغلونني؟ أنت من جوعتهم يا علج! لا يهمني أيضًا، أليس ذلك مما كسبت أيديهم؟ ولكنك سلبتهم أملاكهم فلم يبقَ في أيديهم إلا التراب والدم والعرق! وما يضيرني، أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟ كلا سيادة الرئيس، ليس لك ملك أمك، ولا جناح بعوضة، ولا أنفاسك النجسة حتى، كل ذلك إمهال قبل الأخذ، واستدراج قبيل القبض، ومفخرة ما قبل المقبرة، وعلوّ ما قبل السقوط.
لكنك لا تدري، تسير والآيات فوقك، وصور الأنبياء في مخيلتك المريضة وهم منها براء، تراهم كأصدقاء من أزمنة مضت، وأنك في مستواهم من زمن أتى، حتى إذا ذكرتهم تحدثت عنهم كرفاق في مهمة واحدة، وأنت أحدهم، مبتلى ببلاد منهكة قال لك الله حينها “خد دي”، وتقصد مصر، وتتألى على الله، وتستشهد بقصص موسى وسليمان ويوسف، تروق لك قصص الأنبياء التي يكون فيها النبي حاكما، بينما فاتتك يا مغفل قصة نوح! فإن كنت تبحث عن شبيهٍ لك في كتاب الله فإنما أنت الهالك الذي اعتصم من الطوفان بجبل، أو فرعون الذي ظن أنه ملك الدنيا بين ذراعيه، مع أنه حين هاج الموج لم تغنِ عنه الدنيا في أن يملك ذراعيه نفسيهما، فكان من المغرَقين!
ثم تأتي تلك المشاهد بينما على بعد مئات الأميال فقط، ببلد شقيق، ارتبط مع مصر بالمصير نفسه على مر التاريخ، دخل الشعب قصر الحاكم الذي لطالما حرمهم من التنفس بالقرب منه، أو صعود الجبل الذي يشرف عليه، وقتل وسجن وشرد الملايين لأجل تلك الجدران البيضاء، والأطر المذهبة، لكنه في النهاية خرّ تحت أقدامهم، وهرب في دجى الليل، متخفيًّا، لا يعلم إلى أين يذهب، في حين يغني الثوار بين جنبات القصر وهم يهللون ويكبرون ويرقصون: بندوسهم بندوسهم.. بيت الأسد بندوسهم!
ولا أتخيل اختيار التوقيت إلا رسالة من الله الباقي لا قرارا من العبد الهالك، ولا أرى اختيار الآية فوق رأسه إلا إيذانا بزواله وبشرى بسقوطه، كأننا جميعا نرى على جبينه ما لا يرى، وكأننا نراه داميا غارقا محترقا، وهو لا يعلم ما يحيق به، ولقد استُدرج حتى استنفد كل درجات النجاسة والحماقة، ماضيا نحو مصيره الأسود، حافرًا قبره بيديه، وإن ظنه قصرا مشيد يكلف الطابق الواحد منه المليارات على أقل تقدير، ظانا أن ذلك سيمنعه عن القدر، وسيحميه من قضاء الله، وسينجيه من ساعة التجلي والمذلة.
يشاهدك الجياع والعطشى والجرحى والأسرى والشهداء يا ريّس، يضحكون من فرط بيان المشهد، يضحكون أعلى وأكثر، يرونك في حلتك فلا يجدونك إلا بائسًا ينزل من نعشه على قدميه، ماضيا نحو مقبرته بنفسه، وما بشار منك ببعيد، ولا السوريون منا ببعيد، ولا الأمر كله على الله بعزيز، هذي خطابات النهاية، وهذي فجورات الوداع، وهذي نهايات الآملين بالخلود والبقاء ومنازعة الله في القضاء، وهذي مصاير الظالمين حين تدنو آجالهم فوق رؤوسهم فيراها المظلومون رأي العين ولا يراها الظالمون أصحابها، فليست الدنيا سوى أيامك، وقد انقضى أكثرها لديك، وما تبقت هي أيام أيام، أيام بالحقيقة لا المجاز، طالت الأسابيع والأشهر أو قصرت، فلن تطول رقبتك أكثر، حتى تنقصم، وما الغد عنا ولا عنك -يا عرص- ببعيد.