مدونات

أزمة الكفاح العمالي

ديسمبر 19, 2024

أزمة الكفاح العمالي

الكاتب: عبدالرحمن حسنيوي

يقول السياسي الألماني إدوارد برنشتاين في كتابه “Evolutionary Socialism: A Criticism and Affirmation”: “العمال لا يطالبون بالرفاهية، بل بالعدالة، فنضالهم هو نضال من أجل حقوقهم الطبيعية التي سلبها النظام الرأسمالي”.

 في واقع تزداد فيه قبضة الرأسمالية على تفاصيل الحياة اليومية، حيث يعلو صوت السوق فوق كل الأصوات، تبدو النقابات العمالية كمنارة خافتة في بحر هائج ومظلم، فقد كانت يوماً ما رمزا للمقاومة، صوتاً حياً يدافع عن كرامة العمال وحقهم في العيش الكريم، أما اليوم فهي تقف على هامش مشهد اقتصادي تحكمه قواعد لا تعرف سوى لغة الربح، وقوانين تعيد تشكيل العالم لتضع الإنسان في أسفل سلم الأولويات.

 في ظل النظام النيوليبرالي الذي يرفع شعار “دعه يعمل، دعه يمر”، أضحت الرأسمالية أكثر توحشاً، تخترق كل الجدران وتسلب كل الضمانات، فالعامل الذي كان ذات يوم أحد أركان المعادلة الاقتصادية، تحوّل إلى أداة يُستنزف جهده دون اعتراف حقيقي بحقوقه، حيث أصبحت الوظائف مؤقتة، ساعات العمل طويلة، والضمانات الاجتماعية شبه معدومة، في حين تعلو أبراج الشركات متعددة الجنسيات شاهدةً على ثروات تتكدس في أيدي قلة قليلة.

 علاوة على ذلك، يتم تفكيك كل مظاهر التضامن الجماعي بين العمال، حيث تُفرض الفردية كمنهج حياة، ويُجبر الإنسان على مواجهة مصيره منفرداً في عالم لا يرحم، فالنقابات العمالية التي كانت الحصن المنيع في وجه الاستغلال، تجد نفسها مكبلة، عاجزة عن مواجهة تيار جارف من التغييرات الاقتصادية والاجتماعية.

 في التاريخ المعاصر لعبت النقابات العمالية دوراً محورياً، فكانت القوة الدافعة وراء تحسين شروط العمل وانتزاع الحقوق الاجتماعية، لكن في زمن الرأسمالية المتوحشة، أصبحت هذه الكيانات نفسها مهددة، ليس فقط بسبب القوانين القمعية التي تسعى إلى تقييد عملها، بل أيضاً نتيجة التحولات العميقة التي طالت طبيعة العمل والاقتصاد.

 فقد أسهم تفتيت البروليتاريا في تشتيت قوة العمال، إذ لم تعد المصانع والمكاتب تجمعهم في مكان واحد، بل تحول العمل إلى نماذج مرنة ورقمية وعابرة للحدود، مما جعل تنظيمهم في إطار نقابي موحد أمراً بالغ الصعوبة، وعلى الجانب الآخر، بسطت الشركات متعددة الجنسيات سيطرتها على الاقتصاد العالمي، مستغلة قوتها لفرض شروط عمل قاسية وإضعاف قدرة النقابات على المفاوضة الجماعية، هذا التراجع عززه الهجوم الإعلامي المنهجي، حيث سعت وسائل الإعلام التي يسيطر عليها رأس المال إلى تشويه صورة النقابات واتهامها بعرقلة التقدم الاقتصادي وزيادة التكاليف، كما دعم رجال المال الحكومات من أجل سنّ تشريعات تقييدية تستهدف شل قدرة النقابات على الإضراب والتفاوض الجماعي، مما أدى إلى تقليص فعاليتها وإضعاف تأثيرها في الدفاع عن حقوق الطبقة العمالية.

 مع تراجع دور النقابات العمالية، أصبحت الطبقة العاملة تواجه تحديات متزايدة تفاقم من معاناتها اليومية، فقد أدى غياب التنظيم العمالي إلى تعميق الفجوة الطبقية، حيث باتت الثروات تتكدس في أيدي نخبة صغيرة، بينما يعاني السواد الأعظم من الفقر وانعدام الفرص، وفي ظل هذا الوضع تدهورت شروط العمل بشكل ملحوظ، إذ يُجبر العمال على العمل لساعات طويلة بأجور متدنية، دون أي ضمانات تحميهم من الطرد التعسفي أو الاستغلال، إلى جانب ذلك، شهدت الحماية الاجتماعية تراجعاً خطيراً، بعد أن كانت النقابات قوة ضغط لتحقيق مكاسب أساسية مثل التأمين الصحي، والمعاشات التقاعدية، والإجازات المدفوعة، ومع ضعف النقابات، أصبحت هذه المكتسبات في مهب الريح، تاركة العمال أمام مصير غامض في عالم تسيطر عليه قواعد السوق الجشعة.

 في ظل التحديات التي فرضها الاقتصاد الرقمي، بدأت بعض النقابات في البحث عن طرق جديدة لتنظيم العمال غير التقليديين، مثل العاملين عبر المنصات الرقمية وسائقي التوصيل، فقد أدركت أن معركتها تتجاوز حدود المصانع والشركات، وأنها جزء من نضال أوسع يشمل قضايا حقوق الإنسان، البيئة، والمساواة، والعدالة الاجتماعية.

في هذا السياق، لجأت بعض النقابات إلى استخدام التكنولوجيا الحديثة (وسائل التواصل الاجتماعية كفيسبوك وواتساب…) كأداة لتنظيم الاحتجاجات، وتوعية العمال بحقوقهم، وتسهيل التواصل بينهم، كما بدأت في الاستفادة من الأدوات الرقمية لفرض التفاوض مع الشركات الكبرى والحكومات، لأنها استطاعت الوصول إلى أعداد كبيرة من العمال وتنظيمهم بطريقة أكثر مرونة وكفاءة، رغم التحديات التي فرضها النظام الرأسمالي.

 في عالم تُسيطر فيه الرأسمالية على كل شيء، تظل النقابات العمالية الأمل الأخير في وجه الجشع والاستغلال، فهي ليست أداة للدفاع عن حقوق العمال فحسب، بل هي رمز لفكرة أن التضامن الإنساني لا يمكن أن يُقهر، كما أنها ليست مجرد ماضٍ مجيد، بل ضرورة ملحة للحاضر والمستقبل في مواجهة الرأسمالية المتوحشة، لذلك تحتاج النقابات إلى استعادة دورها، إلى كسر القيود، وإلى إحياء روح المقاومة، فالنضال من أجل العدالة الاجتماعية لا ينتهي، والنقابات هي القلب النابض لهذا النضال. النقابات، رغم ضعفها الحالي، تظل رمزاً للأمل والنضال، فهي تمثل فكرة التضامن الإنساني في مواجهة الجشع، وتجسد إيمان العمال بأن الحقوق لا تُمنح بل تُنتزع بالنضال، فالرأسمالية تريد عالماً بلا نقابات، بلا تضامن، بلا أصوات تعلو للمطالبة بالحق، لكن العمل النقابي لم يكن يوماً مجرد وظيفة أو مؤسسة؛ هو فكرة، والإيمان بالفكرة لا يموت. في النهاية، النقابات ليست مجرد ذكرى من الماضي؛ هي أمل الحاضر والمستقبل في زمن تُخنق فيه أصوات العدالة، كما انها تظل رمزاً للإصرار على أن للإنسان كرامة لا يمكن أن تُباع أو تُشترى، فقد تُخفت عواصف الرأسمال صوت النقابات، لكنها لن تستطيع أبداً إسكاتها.

شارك

مقالات ذات صلة