إنّ الإنسان مسكينٌ جداً، مهما ظنّ نفسه صاحب مُلك، فهو مجرّدٌ في حقيقته، ومهما ظنّ أنّه يملكُ اللحظة، فإنّه لا يملك من أمره شيئاً، إنّ هذه الأمور هي حقيقة وجودية إيمانية، لكنّ هنالك فرق كبير بين أن تمسك تفاحةً بيدك طيلة العمر وتموت دون أن تتذوقها، وبين أنْ تُمسكها وتتذوقها. إننّي في غزّة، أمسكتُ تفاحةَ الإيمان وتذوّقتها.
هذه نعمةٌ عظيمةٌ جدّاً لو أدركها ملايين المسلمين لتمنوا أن يكونوا مكان أهل غزّة الآن، يتذوقون الصبر والثبات والرحمة والإيثار والتوكّل على الله حقّ التوكّل، ويعيشون سور القرآن حياةً كاملة على الأرض، فتجري الآيات على أحوالهم، لذلك قالوا في الأثر “مَنْ ذاقَ عرف”، هل عليكَ أن تذوق لتعرف؟ نعم عليك هذا، لأنّ كل الذين لم يذوقوا لم يعرفوا.
لا يمكن لشخصٍ أن يتحدث عن الصبر دون أن يدرك كنهه، ولا أي أحدٍ يستطيع أن يتحدث عن جماليات عدم اليأس من روح الله دون أن يعيش في تجربته الحياتية “لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون”.
المعاني هي ميراث الصالحين؛ بمعنى أنّ كلّ الأملاك الماديّة هي فانية، لأنّ كلّ شيءٍ روحي خالد بانتسابه إلى (روحانيّة الله) وكلّ ما هو ماديّ فانٍ بانتسابه إلى (ماديّة الطين) لذلك يغدو الاختبار الأول للإنسان في الحياة (ما معنى أن تكون مخلوقاً، إنساناً، على الأرض؟)، وتحدّثك نفسك وأنت تحت الإبادة بين هذه الجرائم الفظيعة بحقّنا، كيف يستطيع رجل أنْ يدفنَ أولاده جميعاً ويقول: “الحمد لله ، رضينا ياربّ”، كيف ينقذه إيمانه في لحظةٍ كهذه؟ أو كيف ينقذه المعنى الذي فقهه في أن يكون مخلوقاً للخالق؟
الغنيّ الحقيقيّ هو الذي تملك يده، ولا يملك قلبه، بمعنى مهما ملك استطاع أن يستغني، ومن طبيعة اليد كعضو جسدي أنّها تُمسك وتُفلت، ولكنّ القلب يصعب أن تُخرج منه ما تَمَلّكَه، لذلك تدرك عظمة أن تكون الدنيا في يدك وليست في قلبك، أي أنّك قادر أن تلقيَ بها من يدك في أي وقت ثم تلتقطها في أي وقت وهكذا فتملكها، ولا تملكك.
عشتُ كثيرا من اللحظات التي غلب عليها الفناء عن كل مراداتي الدنيوية، في كلّ لحظة تحسست بها تفاصيل الموت، وأدركت كيف أن هذا العالم هشٌّ جدّاً إذ تخترق جسدك رصاصة فينتهي.
في كلّ دقيقة تحت الإبادة، أنت رهين هذا العالم الهش، والطريق القصيرة نحو العالم الآخر، لكن هل هذه الحقيقة فقط تحت الحرب؟ بالتأكيد لا، إن كل إنسان على وجه البسيطة يعيش في إطار هذه الحقيقة، لكنّها لا تتجلّى للكثيرين، ولو تجلّت لهم لألقوا الدنيا من أيديهم، ولتوقف المرابون عن القبض على معاملاتهم الربوية، وتوقّف الكذّابون عن الكذب، واستبدل الناس جمر الغيط ببَرَد العفو، وهكذا.
إذن هل الحكمة في التجلّي؟ كلّما تجلّى معنى الإيمان على قلبك فأنت بخيرٍ عظيم، لأنّه كلّما انحجب عن قلبك فأنت أسير.
” أكلما اشتهيت اشتريت”، تلك العبارة التي قالها سيدنا عمر رضي الله عنه لسيدنا جابر رضي الله عنه حينما وجد في يده لحما معلقاً، فسأل سيدنا عمر جابراً، ما هذا؟ قال: لحم اشتهيته، فقال له: “أكلّما اشتهيت اشتريت؟ فمتى تتعلم الصبر؟”.
وأن تشتهي وتكون قادراً على شراء مرادك الذي اشتهيته فتمتنع عن ذلك مع قدرتك عليه أعظم من أن تشتهي فلا تجد ما تشتهيه في السوق أو ألا تكون قادراً على شرائه، فالامتناع الأول امتناع المجاهد، وامتناع الثاني امتناع المضطر.
وفي الحرب تجتمع الامتناعات وتتوسع دائرتها، ترغب في السخط واليأس فتمتنع عن ذلك امتناع المجاهد لنفسه الساخطة، ترغب في طعام معين فتمتنع عن شرائه امتناع المجاهد لنفسه من تشجيع شجع التجار برفع الأسعار، أو تصبر على عدم توفره في الأسواق، والكثير، وأتخيل سيدنا عمر بن الخطاب بيننا يقول (إذا لم تتعلم الصبر في الحرب؟ فمتى تتعلم الصبر؟) أو بالأحرى إذا لم تدرّب الحرب نفسك على الامتناع عن شهواتك -وإنْ كان رغماً عنك- لتدرّبها غداً طواعية منك، وتصقل جوهرك الروحيّ بين هذه المجاهدات النورانيّة والتي لا يكون عمادها سوى الصبر، فمتى ستدرّب نفسك وتنقلها من مرادك إلى مراد الله؟