آراء
في العام 2013 توفي الكاتب الأمريكي “مايكل هاستينغر” في حادث مرور في “لوس أنجلوس”، قبل وفاته بأشهرٍ، كتبَ مقالةً عن الغزو الأمريكي لأفغانستان، وقال مُعلِّقاً على سبب ارتفاع قتلى الجيش الأمريكيِّ هناك: “هؤلاء الأفغان لا يشاهدون التلفاز، ولا يعرفون شيئاً عن أفلام “رامبو” و “جيمس بوند”، لهذا لا يرون فينا سوى دخلاء مُحتلِّين، ويجب أن يُخرجونا مهما كلَّفهم الأمر، لهذا كل أسلحتنا وحروبنا النفسية لا تجدي معهم نفعاً”.
وفي العام 1993، وبعد فشلِ الجيش الأمريكي في الصُّومال، سألتْ مذيعة “CNN” جنرالاً أمريكياً: لماذا فشلتم في الصُّومال؟!
فقالَ لها: ليس في الصُّومال مثقَّفون! هذا الخبران يُلخِّصان كلَّ شيءٍ!
في الخبر الأول، تأمَّلْ معي جملة:
هؤلاء الأفغان لا يشاهدون التلفاز، ولا يعرفون شيئاً عن أفلام “رامبو” و “جيمس بوند”! ، لقد نحتت الحضارة الرأسماليَّة في صدورنا أصناماً لا تقلُّ خطورةً عن أصنام العرب في الجاهليَّة! وهذه الأصنام، وإن لم نكن نسجد لها، إلا أنها تُرخي بظلالها على حياتنا، وتُشكِّلُ حجر عثرة في وعينا، والأخطر في تحررنا!
دأبتْ هوليود تُرينا أنَّ الجندي الأمريكيّ لا يموت! إنَّه المنتصر الذي لا يُهزم! مجموعة من عشرة جنودٍ تقومُ بإنزالٍ ما، في مكانٍ ما، لتنفيذ مهمَّة ما! تنجحُ الفرقة دائماً، تبيدُ الأعداء جميعهم، وتنجو جميعها، وبالتأكيد في مشهدٍ ختاميٍّ مهيب، جنديٌّ مصاب يتكىء على زميلٍ له لحظة الإخلاء بطائرة الهليكوبتر!
هذا هو صنم الجنديّ الأمريكيِّ الذي نحتوه في صدورنا! منتصرٌ دائماً، وينزفُ ولا يموت!
تمَّ إنتاج مئات الأفلام عن فيتنام، صوَّروهم لنا سُذَّجاً، حفنة مزارعين يعتمرون قبعاتٍ من القشِّ، أشراراً، يحملون البنادق، ويُطلقون النَّار على نُخبة هذه البشريَّة وصفوتها!
بينما الحقيقة هي أنَّ هؤلاء المزارعين البُسطاء ألقوا فؤوسهم ومناجلهم، وحملوا البنادق ليُدافعوا بها عن وطنهم! ولا أحد يعرف بأي منطقٍ يصبحُ الغريب الآتي من وراء المحيط ليقتلَ صاحب حقٍّ، بينما الآمنُ في حقله وكوخه إرهابيٌّ يجب أن يموت!
ممنوعٌ عليكَ أن تسأل: من هو الإرهابيُّ حقاً، صاحب الحقل والكوخ والمنجل وقبعة القشِّ، أم صاحب المدفع والبندقية والخوذة العسكريَّة الذي يُريد أن ينزعَ الكوخ من صاحبه؟!
كلُّ الأفلام الأمريكيَّة تُصوِّرُ لنا الهنود الحُمر جماعةً من الرُّعاع المتخلِّفين، الذين لا يعرفون قيمة الحضارة والمدنيَّة!
وهذا ذنبٌ عظيم يستحقُّون لأجله أن يموتوا! ولكنكم جميعاً تعرفون أنَّ هؤلاء الهنود الحُمر عاشوا بسلامٍ فوق هذه الأرض لآلاف السنين، قبل أن تُقرر أوروبا أن تُحوِّلَ أرضهم إلى مكبِّ نفاياتٍ بشريَّة، تُلقي فيها مجرميها المدانين بالقتل والاغتصاب والسَّرقة!
ولكن بغض النَّظر عن الحقيقة، عليكَ أن تُؤمن أنَّ الأمريكيَّ دوماً على حقٍّ، وأنَّه لا يقف إلا مع الحقّ!
يُحدِّثونك أشهراً عن مساعيهم لإنهاء الحرب على غزَّة، وقلقهم من هذا الاستخدام المفرط للقوَّة!
الاستخدام المفرط للقوة الذي يتمُّ بأسلحتهم!
وعند أول جلسة لمجلس الأمن لوقف الحرب في غزَّة، يوافق الجميع، وترفع أمريكا الفيتو!
ثم ترجع لتحدثنا عن مساعيها لوقف الحرب، وتُعبِّر عن قلقها من الاستخدام المفرط للقوة!
إنَّهم يتدخَّلون في كلِّ شيءٍ، لا يصنعون وعياً فحسب، وإنما يصنعون ذوقاً!
رأيتُ منذ سنوات صورة لإعلان في صحيفة أمريكية قديمة ترجع إلى العام 1930!
الإعلان لمركز تسمين، يتوجّه فيه المركز إلى المرأة قائلاً: لا تكوني “سلفوعة”، جلدة وعظمة، نحن نُساعدكِ كي تكسبي وزناً!
الحضارة الرأسمالية التي حددت قديماً أن من معايير جمال النِّساء أن يكُنَّ مربربات وزائدات وزن، هي ذاتها التي لا تفتح أبواب شاشاتها ووظائفها الآن إلا للمرأة المنحوتة نحتاً!
التي كانت “سلفوعة”، وقبيحة لأنها كذلك، صارت اليوم جميلة لأنها كذلك!
والجميعُ في سباقٍ مع نفسه، ليصبَّ نفسه في قالب الجمال الذي غيَّروا معاييره!
ببساطة إنهم يلعبون بإعدادات البشريَّة!
أما الخبر الثَّاني، فتأمل معي جواب الجنرال الأمريكي على السؤال:
لماذا فشلتم في الصُّومال؟!
ليس في الصُّومال مثقَّفين!
تأملْ بساطة هذا الجواب ورعبه في آنٍ معاً!
بالتأكيد هو لا يعني بالمثقفين هم أولئك الفئة التي تقرأ، وتعتزُّ بثقافتها، وتعرفُ عدوَّها من صديقها!
إنَّه يعني أولئك الشَّبيحة المتفيقهون!
هؤلاء الذين لا نراهم إلا علينا!
كلكم رأيتم المثقفين الشَّبيحة الذين عاشوا في عباءة الدكتاتوريات، لم يتكلموا يوماً عن الظلم والاضطهاد، ولا عن السجون والفساد، ولا عن استعباد الناس وسرقة ثروات الشعوب!
ولكن بمجرد سقوط نظام سفّاح الشّام، خرجوا علينا يُعربون عن قلقهم من عودة البلاد إلى الوراء، وكأنه يوجد وراءٌ، وراء المكان الذي كان فيه البلد!
ويتوجَّسون على الحُريات العامة!
هؤلاء العاهرون الذي أغمضوا أعينهم عن سجن صدنايا عقوداً طويلة وفتحوها الآن على لحى الفاتحين!
مشكلة هؤلاء المثقفين “النص كُم”، أننا لا نراهم في معارك التحرير، ولا نسلم منهم بعدها!
اكسروا الأصنام التي نحتوها في صدوركم، هؤلاء حفنة مجرمين وسُرَّاق أوطان، ولو لبسوا البدلات الأنيقة، وزينوا شجر الميلاد، وتهادوا الورود في عيد الحُب!
هذه الورود الحمراء المغموسة بدماء المساكين التي سفكوها في كلِّ أصقاع الأرض!
والحذاء الحذاء في فمِّ كلِّ “متثيقفٍ” لم تروه في معركة التحرر، ولكن وجدتموه يُحذِّر من العبودية الجديدة وقد كان طوال عمره عبداً!