لا شيء يهزني من أعماق روحي وكياني كالشهداء وسيرهم ووجوههم٬ ولا أدري لم تصبح صور الشهداء بعد رحيلهم أجمل مما كانت عليه يوماً٬ كأن وجوههم مرايا السماء٬ تعكس نور الله٬ أو شعاع التضحية الإيمان والإخلاص٬ تطاردني وجوههم في خلواتي وتأبى أن تنطفئ، حتى وإن غيّبتها الأقدار عن أنظارنا في الدنيا٬ أو تعاقبت عليها الأيام والسنين٬ تظل وجوههم النورانية نقطة ضعفي وانكساري.
وإذا تمعّنت في وجوه الشهداء وسرحت بها٬ أسأل نفسي دوماً: يا ترى٬ ماذا رأت عين الشهيد قبل أن تغلق في اللحظة الأخيرة؟ هل كانت ترى الرصاصة أو الصاروخ وهو يشق طريقه نحو جسد صاحبها؟ أم ترى شريط الحياة القصيرة وهي تُختزل في أجزاء من الثانية؟ أم ترى أول النعيم المقيم في أعلى المراتب والدرجات فتبتسم؟ أم كانت ترى حُلماً يتحقق٬ ربما وطناً يتحرر؟ أم وداعاً غير مكتمل لأحبة ظلّوا خلف الشهيد وتكتوي قلوبهم بالحنين إليه كل يوم؟
الأكثر عجباً وما يثير دهشتي في كل مرة٬ هو أن تشعر في أعماقك٬ أن بعض الشهداء يعلمون علم اليقين أنهم سيكونون شهداء٬ فإذا رأيت فلاناً أو عاشرته عرفت أنه سيكون يوماً شهيد. تجد الواحد منهم يحدث نفسه بالشهادة ويطلبها من الله في أحلك ظروفه وأحواله أو أيسرها وأبسطها٬ تجده طيباً هيناً ليناً محباً٬ لا يرى باباً للخير إلا ويطرقه٬ ولا يرى باباً للشر إلا ويغلقه٬ ويكون ذلك أشد وضوحاً في آخر أيامه. تجد الشهيد مقبل على الدنيا كأنها حيزت له٬ لا كأنه يودعها.. تجده ثميناً نادراً٬ كأنه ملاكاً يمشي على الأرض٬ ليس من أهل الدنيا بل من أهل الآخرة٬ يريد وجه الله ويتشوق إلى لقائه٬ وإلى جنة عرضها كعرض السماء والأرض.
ننظر إلى وجوههم وجنازاتهم ونبكيهم.. لماذا نبكي الشهداء؟ نحن نبكي رحيلهم لأنهم أنقانا وأصفانا وأجملنا وأكرمنا عند الله٬ ونبكي أنفسنا٬ لأنهم تركونا خلفهم٬ لدنيا البلاء والشقاء.. نبكيهم لأننا نغبطهم منزلتهم٬ وحدهم الشهداء من اختصهم الله بالقرب منه٬ (والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم).. فهم (عند ربهم) ونورهم يسعى بين أيديهم٬ يلاقون أجر صبرهم ورباطهم وجهادهم وتعبهم في دار الدنيا٬ ومع أول قطرة دم يرون مقعدهم من الجنة ويُحلون حلّة الإيمان٬ وغمسة واحدة في نعيم الجنة كفيلة أن تمحي من ذاكرتهم كل قهر عاشوه يوماً٬ وكل ضنك أو شظف عيش٬ أو همّ أو غمّ أو حزن مر بهم.
الشهيد لا يموت، بل يختار أبديته٬ يُقبل على الله بإرادة لا تقهر وخطوات تعرف طريقها جيداً لا تتعثر٬ دمه بوصلة٬ حقيقة ناصعة أقوى من كل زيف، وابتسامته شمس تنير دروبنا عند كل صباح يطلع علينا بعد ليل حالك٬ ابتسامة لا نجرؤ على نسيانها٬ لأنها تختبئ لنا النصر المؤجل٬ الذي -إن عشنا- أعدكم أننا سنبكي فيه شهدائنا من أعماق أعماق قلوبنا.
كل الحروف لا تسعني وصف الشهيد وفعله٬ فكل شهيد هو قصيدة مفتوحة٬ في صمت الأمهات ودموعهن وزغاريدهن، في انتظار الأحبة الطويل، كجسر من دم ساخن ممتد من الأرض إلى السماء٬ حاضر في كل معركة ننتصر بها وكل انكسار لعدونا٬ حاضر كل لحظة عجز وقهر٬ وفي كل لحظة فرح وتمكين ونصر٬ في كل أرض تتحرر٬ في كل تكبير وهتاف ينادي بالوحدانية والحرية والخلاص٬ وفي كل أملٍ لم ينطفئ٬ يسرجه دم الشهيد.