مدونات
الكاتب: فاطمة الزهراء حبيدة
يعد مجال الثقافة والأدب من المجالات الجد مغرية، والتي لا يمكن للمرء إلا أن يفتخر بالانتماء لها، وما يمكن أن تضيفه لمساره، من معارف، وبلاغة، فالمحافل الأدبية ليست بالضرورة مجرد صورة هنا وهناك، بل الأكثر من ذلك؛ هي تربية وتهذيب للنفس، والقدرة على النقاش، وكذلك التمكن من إدارة الاختلاف الفكري، الذي لا طالما ساهم في الارتقاء بالجانب الثقافي، وأدى إلى تلاقح معرفي بين الادباء. وشكل ميدانا للتنافس الثقافي، فيرد هذا الكاتب على الآخر بمقال يبسط فيه توجهه، ويعارضه الاخر بكتاب منطلقا من وجهة نظر اخرى، وهكذا، حتى تزخر الساحة الثقافية باختلاف بناء يرقى ولا يهدم.
لكن ليست كل الاختلافات بناءة، أو نابعة من حسن نية، وهذا الوضع ليس مستجدا، بل منذ عقود قد خلت، ونتج عن التفرق في وجهات النظر صراعات خلدتها كتب وأشعار، توثق لهذا النوع من الصراع الادبي، الذي امتد لتبادل للاتهامات وخصومات شخصية، إما مرد ذلك لاختلاف فكري، أو بسبب كره مجاني، ولعل من أهمه؛ الخلاف الحاصل بين “هيغل” وفيلسوف التشاؤم “شوبنهاور”، هذا الأخير الذي لم يكن يقبل فلسفة هيغل، وكان يرفضها، حتى أنه كان يستشيط غضبا عندما يعج الطلاب حول هيغل لحضور دروسه.
كما شهد عالم الفلاسفة هذا الصراع، انتشرت شراراته لدى الشعراء كذلك، ولكل جيل من الادباء والمثقفين خصومات نوعية تميزها عن غيرها، وعرفت صيتا كبيرا آنذاك، كأبو الطيب المتنبي، الذي طالته أوصاف خصومه بالتعالي والتكبر، مرورا بالاتهام بالسرقة الأدبية، ثم الصراع الفكري بين مصطفي صادق الرافعي وطه حسين وعباس العقاد، ثم ادونيس الذي لاحقته اتهامات بالسرقة الأدبية.
المتنبي وخصومه: بين “البارانويا” وشبح السرقة الأدبية
امتاز المتنبي بفصاحة اللسان، وشعره الذي لا يكاد يخلوا من المدح والافتخار بنفسه، هذا الامر الذي لم يرق الكثير من منافسيه، وجر عليه وابلا من الانتقادات الحادة، بلغ لوصفه بالمصاب بجنون العظمة، نظرا لتعبيره عن الاعجاب بنفسه المبالغ فيه، والذي كان ظاهرا في أشعاره مثال ذلك:
إن أكن معجبا، فعجب – جميل؛ لم ير فوق نفسه من مزيد
أنا ترب الندى ورب القوافي – وسمام العدا وغيظ الحسود
أو: “الخيل والليل والبيداء تعرفني؛ والسيف والرمح والقرطاس والقلم”، وكذلك بعض المقاطع الشعرية التي تبرز احتقاره للآخرين ك: “أذم إلى هذا الزمان أهيله؛ فأعلمهم فدم وأحزمهم وغذ؛ أكرمهم كلب وأبصرهم عم؛ أسهدهم فهد وأشجعهم قرد”، وكذلك: “أي محل أرتقي؛ أي عظيم أتقي؛ وكل ما قد خلق الله؛ وما لم يخلق؛ محتقر في همتي؛ فتوضح هذه الابيات الشعرية كمية الفخر الذي يحظي به المتنبي نفسه، وكذلك الاحتقار والعداء الذي يكنه للآخرين، وأنهم أقل منه شأنا، وأنه أعلى مكانة قيمة.
وبطبيعة الحال؛ لم تمر هذه الابيات دون أن تثير غيظ منافسيه، الذين لم يترددوا بالرد عليه بالمثل.
فقال عنه أبو العباس النامي: “كان قد بقي من الشعر زاوية دخلها المتنبي”، ومنهم من اتهمه بالسرقة الأدبية كأبو علي الحاتمي في “الرسالة الموضحة في ذكر سرقات المتنبي وساقط شعره”، فيقول للمتنبي: “ما اعرف لك إحسانا ولا اعترف لك باختراع، إذ كانت هذه الابيات التي تتخيل أنك السابق إلى معانيها، ورب الاحسان فيها، مسترقة ملصقة”.
أما ابن لكنك البصري فرد على المتنبي بهدف كسر تعاليه: “ما أوقح المتنبي؛ في ما حكى وادعاه؛ أبيح مالا عظيما؛ لما أباح قفاه؛ يا سائلي عن غباه؛ من ذاك كان غناه؛ إن كان ذاك نبيا؛ فالجاثليق إله”.
شكلت هذه المقاطع الشعرية للمتنبي موضوعا لدراسات وأبحاث لمعرفة طباعه النفسية، والتي خلصت بتشخيصه بـ “البارانويا” التي تبدو ظاهرة في النص، وذلك باعتماد التحليل النفسي للنصوص الأدبية، وهذا النوع من التحليل لقي إقبالا واسعا لمعرفة الخفايا المشاعرية للنصوص الأدبية، وشكل كتاب psychanalyse et littérature لـ jean belleminتفصيلا لهذا النوع من التحليل، واعتبر فرويد “أن تحليل الابداعات الشعرية، والشعراء والفنانين، تعد من المشاكل الأكثر سحرا من كل تلك التي تتلاءم مع تطبيقات التحليل النفسي”. وتأسيسا على ذلك، يرى كارل غوستاف يونغ “أنه عندما نتعامل مع النص، نتعامل مع منتوج فاعليات نفسية معقدة جدا” (ديزيره سقال، الابداع الادبي والتحليل النفسي، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان، 2013، ص 9)، وهذا ما يوضح أن معاناة المتنبي مع خصومه كانت ظاهرة حتى في قصائده الشعرية، لاعتقاده أن خصومه يتآمرون عليه، وناهيك عن مجموعة الكتابات التي شكلت هذه الخصومات موضوعا لها كـ”الوساطة بين المتنبي وخصومه” للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني، وكذلك كتاب “المتنبي وصراعاته، دراسة نفسية وأسلوبية”، للكاتب بكري شيخ أمين.
وهذا ما يؤكد أن مسار المتنبي كان حافلا بالكثير من الخصومات، والمشادات التي كانت واضحة جدا في أشعاره.
الرافعي وطه حسين و العقاد: الاختلاف يفسد للود قضية
عرف مسار مصطفى صادق الرافعي خصومات حادة مع بعض الأدباء، خصوصا أن أسلوبه كان لا يخلو من العداء الصريح، وأبرز خصومه كان كل من طه حسين وعباس العقاد.
خصص الرافعي في كتابه “تحت راية القرآن” محاور يرد فيها على طه حسين، واصفا هذا الأخير بأنه: “أول من اجترأ على الادب العربي بالمسخ والتكلف، وقال فيه بالرأي الاحمق، واداره الوهم البعيد…ثم كان أول من استعمل الركاكة في أسلوب التكرار كأنه يمضغ الكلام مضغا، فنزل به إلى أحط منازله” (تحت راية القرآن، ص 102)، وفي نفس الكتاب، رد الرافعي عن طه حسين مستدلا ببيت لأبو طيب المتنبي: “وكم من عائب قولا صحيحا؛ وآفته من الفهم السقيم” وجاء هذا الرد، بعد أن انتقد طه حسين “رسائل الاحزان”، الذي زعم “أن كل جملة من جملة الكتاب تبعث في نفسك شعورا قويا أن الكاتب يلدها ولادة وهو يقاسي في هذه الولادة ما تقاسيه الأم من آلام الوضع”، وعزز الرافعي رده بأنه كتب رسائل الاحزان في ستة وعشرين يوما، وتحدى طه حسين بأن يكتبها في ستة وعشرين شهرا، ويرد الرافعي متهكما على طه حسين: “وها أنا اتحداك أن تأتي بمثلها أو بفصل من مثلها، وإن لم يكن الامر عندك في هذا الأسلوب الشاق عليك إلا ولادة وآلاما من آلام الوضع كما تقول، فعلي نفقات القابلة والطبيبة متى ولدت بسلامة” (الرافعي، تحت راية القرآن، ص110)، وليستمر الرافعي في سلسلة من التهكم والنقد الساخر لطه حسين، بأبيات شعرية: “يا عجبا (طه) اديب العصر؛ أصبح مثل إنجلترا في مصر؛ اسطوله يراعة في شبر؛ وملكه متر بنصف متر؛ في مجلس للدرس بل للهتر؛ يجلس فيه مثل ضب الجحر؛ معقدا من ذنب لظهر؛ تعقيد من قد خلقوا للمكر”، وكانت أولى شرارات هذا الصراع، عندما انتقد طه حسين كتاب “تاريخ آداب العرب” للرافعي، ليفتح عليه هذا الأخير جملة من الانتقادات.
واتسعت دائرة الناقدين لطه حسين عند إصداره لكتابه الموسوم “في الشعر الجاهلي” ونال انتقادات حادة، ليرد عليه مجموعة من الكتاب بكتابات تنتقده منها: “محاضرات في بيان الأخطاء التي اشتمل عليها كتاب في الشعر الجاهلي، للشيخ محمد الخضري، نظرية الانتحال في الشعر الجاهلي لعبد الحميد السلوت، ونقد كتاب الشعر الجاهلي لمحمد فريد، ونشير إلى أن هذا النقد الحاد الذي طال طه حسين، كان ناتجا لاتباعه ل”المنهج الديكارتي” والذي يتأسس على الشك ويرفض ما هو مُسلم به وما جاء به السلف، وبالتأكيد أن هذا الامر لم يقبله بعض “المحافظين”، واتهموه “بالتطاول على الدين”، وكان من بين المنتقدين له “الرافعي”.
ولأن معارك الرافعي عديدة، سنضيف معركته مع “العقاد”، إذ استجمعت جل انتقادات الرافعي في كتابه “على السفود”، وكان أول محور استهله في هذا الكتاب موجها للاستنقاص من العقاد، ويبدو جليا من العنوان ودلالته أن النقد سيكون حارقا، ومما جاء فيه: “ولا ريب عندنا أن العقاد بعد هذه السفافيد، كالمرأة بعد سقوط أسنانها”، حتى أنه تجاوز حدود نقد ما هو ادبي إلى وصفه “بالمراحيضي”، مما يوضح حجم الخصام والكره الشديد الذي يكنه الرافعي للعقاد.
أدونيس ولعنة السرقة الأدبية
كان لأدونيس حظ وافر من النقد والاتهامات، فقد شكلت اتهامات بالسرقة الأدبية لب هذه الصراعات، لدرجة صدر عن ذلك كتاب بعنوان “ادونيس منتحلا” لكاظم حياد الذي تضمن دراسة لنصوص ادونيس ومقارنتها مع شبيهاتها، ولم يقف الامر هنا فحسب، بل صدر كذلك كتاب تحت عنوان “شرائع إبليس في شعر ادونيس” لكاتبه صالح عضيمة، كما تم وصف “ديوان البيت الواحد” بكونه سرقة أدبية بسبب اتهام من قبل محمد الغزي، وعلاوة على كل هذه الاتهامات، لم يسلم أدونيس من الانتقادات التي طالت مواقفه ليلقب بـ”الحداثي الأكثر شغبا” نظرا لكثرة التأويلات التي تنتج عن مواقفه.
ورغم ما يحمله مفهوم “الخصومة” من دلالة سلبية، ويحيل للصراع والشر، لكن لا يمكن التغاضي عن إيجابياته، فلولا الخلاف ما كانت لتبرز جمالية الهجاء، ولا تلك الردود التي تحمل في ثناياها البلاغة والفصاحة، رغم قساوتها، أو الكتب التي كان الخلاف أساس صدورها، فالآن، وفي ظل وسائل التواصل الاجتماعي، فحتى خصومات المثقفين فقدت بلاغتها، لم تعد سوى كلام أجوف، واتهامات مجانية، فأخذنا النصيب من الخصومة، وابتلينا بمن لا يحسن لا الخصومة ولا البلاغة.