سياسة

سورية لا تُرتشف على عجل

ديسمبر 13, 2024

سورية لا تُرتشف على عجل


مع وافر احترامي لكل القراءات والتحليل واستشراف المستقبل، فامتلاك الحقيقة المطلقة عما يجري في سورية الآن اجتهادات تُحترم يبنى عليها. قد يكون من القرائن ما يعزز السردية الآنية،  لكن الجزم بهذا السيناريو أو غيره ضرب تفتيش في الضمائر. قراءة المشهد المعقد آنفا ولاحقا لا يتحقق سوى بالتدقيق في الفسيفساء التي تكونت وامتزجت وصٌقلت من لحظة خروج الانتفاضة السلمية السورية في ٢٠١١، ومحاولة الاجتهاد في إعادة قراءة الخلفيات والسياقات التي تتابعت قبل عدة أيام بسرعة يستحيل إغفالٌها. القفز على نظرياتٍ صممت لتأطير أنماط عسكرية وسياسية لا لقولبة المجريات لتوافق قطعيا هذه الأنماط.


بداية الاحتمالات تقريبا لا نهائية في المشهد متسارع التطورات في سورية وفي مجالها الحيوي والإقليمي والدولي كل دقيقة. يمكننا أن ندرس (لا أن نتكهن) ما نعرفه حتى الآن في ضوء كل ما حدث في سوريا في الأعوام الثلاثة عشر الأخيرة لندرس احتمالات مآلاتها بتدقيق وبلا عجل. سأحاول الاجتهاد في قراءة ما نعرفه حتى لحظة كتابة هذا المقال.


سقوط وهروب بشار الأسد


حتى هذه اللحظة على الرغم من تقدم الفصائل المسلحة وخروج شخص يقول إنه أبو محمد الجولاني (الشرع) فجأة ومن غياهب العشرية ونيف السوداء الأخيرة، يعلن سيطرة المعارضة السورية على الأمور وخلع الأسد وتعيين رئيس وزراء لمرحلة انتقالية، بينما حتى هذه اللحظة لا دليل على أن الأسد ذهب لروسيا هروبا أو إقرارا بانتهاء عهد العلويين انتهى في حكم سورية. أين تركيا من هذه المعادلة خاصة في إدلب وغرب سورية الذي وفقا لاتفاق تخفيف التوتر في المناطق الأربع كان لها حصة كبيرة من الفصائل السورية المدعومة من تركيا. فهل أعطت الولايات المتحدة لأكبر شريك لها في حلف ناتو ضوءا أخضر لتنفيذ خطة إخراج المشهد كما رأيناه؟


لما يهرب الأسد اليوم ولم يفعل 2011؟


تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريباكوف قالت إن روسيا ”نقلت الأسد“ بشكل آمن. يتعين أن ندقق جدا في هذه التفصيلة. الأسد لم يعترف خلال ١٣ عاما من الدمار الكامل لسورية عانى فيها شعبه الأمرين ومعارضته وكل الضغوط التي أخفقت تماما في خلع الأسد أو حتى زحزحته خطوة إلى الوراء – لم يعترف أبدا بالجرم ولم يتوانَ عن إبادة شعبه بكل سلاح وبأنماط مرعبة كالتي تخرج الآن عن سجن صيدنايا وغيره من المسالخ سواء صحت هذه المقاطع أو كان هناك ما هو أسوأ. ضاعت حياة السوريين داخل وخارج سورية ولجوءً وغرقا وتجويعا وإبادة بأسلحة محرمة دوليا.


عانى الشعب السوري الأمرين في وقع ثقيل مدبب للعقوبات التي لم تطل عائلة الأسد وبطانتها أبدا. أثبتت في تحقيق استغرق عاما ونصف العام أن ماهر وبشار الأسد والفرقة الرابعة في الجيش السوري اقتاتت على صناعة وتجارة الكبتاجون وغسل الأموال والتهريب عبر ميناء اللاذقية تحت العقوبات الأمريكية والأوروبية. تلاعب الأسد بدول الخليج وأغرق شبابهم في الإدمان وتربح بلا حدود من الاتجار بالمخدرات التي لا شفاء منها، وأذاقهم من كأس سقوه إياها بالمرتزقة والحرب بالوكالة وجماعات العنف المؤدلج وغير المؤدلج واضطروا للتطبيع معه وأعادوه إلى الجامعة العربية وأعلن ألد أعدائه في الخليج تضامنهم مع ”سورية“ بعد أن تسببوا جميعا والأسد سواء بسواء في قتل نصف مليون سوري نعلم عنهم حتى الآن وتشريد ولجوء ملايين السوريين في رحلات موت أدمت كل ذي ضمير لثلاثة عشر عاما. وكأن ما كان لم يكن. ابتسامات ومصافحات وكأن الأهوال التي وقعت وتواطأ فيها كل دول المنطقة ذات المصلحة كانت سحابة صيف تنتهي بالعتب والمصافحة. هكذا..


لو هرب الأسد فعلا بهذه السرعة فهو أحد احتمالات لا نهائية:


 إما أن روسيا ستنقض مجددا عسكريا كسيناريو ٢٠١٧ للحسم.  أو أنها تسعى لتسوية ملف أوكرانيا بالتضحية بالأسد داخل سورية (وليس بوجودها عسكريا في سورية)  على أن يخرج حيا ومن مطارها العسكري في حميميم أو من مينائها في طرطوس.


إما أن روسيا (كدأبها) لا تدعم وكلاءها للنهاية، ولا تخسر في مواءمات الحلول المركبة. الكرملين رتب أولوياته وأعلنها بالفعل.“ إن ضمان أمن القواعد العسكرية الروسية والبعثات الدبلوماسية في سوريا “له أهمية قصوى”، مشيراً إلى أن موسكو حافظت على اتصالاتها مع القيادة الجديدة في دمشق.


 إما أن ضوءً أخضر وإمدادا ودعما عملياتيا أُمدّ به فصيل أو بضع فصائل بالاتفاق مع إيران أو روسيا أو آخرين للتدخل في الترتيب الإقليمي الذي تدفع به الولايات المتحدة بذراعها إسرائيل على سبع جبهات.


أو أن إيران وهي تدرك أنها الهدف التالي بعد تصفية مقاوماتها وقيادات المقاومة الفلسطينية أدركت أن تسوية ممكنة بين الولايات المتحدة وروسيا. فتستعين بوكلائها على الأرض وعملاء الحرس الإيراني وفيلق القدس لكبح جماح الجولاني والجماعات السورية الراديكالية المدعومين من تركيا أو أي قوى أخرى يغذيها الخليج وتدعمهم عسكريا روسيا. روسيا أظن أنها لن تمنح ضوء أخضر لجبهة النصرة (هيئة تحرير الشام) وقد بدأت بالفعل الهجوم عليهم.


إسرائيل لم تتوان لحظة عن الانقضاض على سوريا (على افتراض أن كل ما يحدث هو لترتيب وضع إقليمي لكيان أكبر لإسرائيل بالاحتلال المباشر. وهي بالفعل على جبهات سبع آخرها سورية. إسرائيل ستسعى للجولان ودمشق وقواعد روسيا العسكرية بضوء أخضر أمريكي لو أرادت الولايات المتحدة والدول الأوروبية المستنزفة بسبب استمرار حربها في أوكرانيا لتصدير الصراع إلى الشرق الأوسط وأولى ساحاتها سورية. وللأسف استشرفت نهاية أليمة على يد النيوليبرالية والهيمنة الأمريكي بالتواطؤ كاملا من دول التطبيع وتفريط الدول المتلقية للمنح المالية والعسكرية، والغارقة في القروض والاستدانة والتفريط في السيادة الوطنية والدور الأهم في ضبط قوام الشرق الأوسط وعلى رأسهم للأسف مصر.


ياسادة… سوريا أبدا لا تُرتشف على عجل.


شارك

مقالات ذات صلة