آراء
الحمد لله الذي أسقط الطاغوت، ورأينا فيه آية من آيات رحمة الله بعباده، قال تعالى: “فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ۚ وَٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ”. شهدنا الأيام الماضية سقوط نظام الأسد الدموي المتعفن المستبد، انتابتني مشاعر كثيرة تشاركتها مع جيلي، لقد شهدنا على مدار العقد الماضي عنف ووحشية هذا النظام الغادر، وتعاون المجرمين من الحزب بقيادة حسن نصر الله، ومجرمي الحرس الثوري الإيراني، ودعم روسيا لهذا النظام، هؤلاء ساهموا في قتل الشعب السوري وحبس حريته ومنع نجاح ثورته العظيمة.
كانت مشاهد القتل والقصف لا تغادر ذاكرة شباب الربيع العربي، كان العنف في سوريا غير مسبوق، أرادها المخلوع الأسد عبرةً لكل المنطقة لمن خرجوا وطالبوا بالحرية، أراد الأسد أن يلقّن شعبه بالقتل والتعذيب والتشبيح درسًا، لكن هذا الشعب كشف عن معدن عظيم وحر وانتفض على السجان وأسقط العميل لكل القوى الأجنبية، هذه هوامش على متن الانتصار العظيم.
واجب الفرح بهلاك الظالمين
شهدنا أيامًا عظيمة لا يمكن أن ينساها جيلي، لقد أعادت صور تقدم قوات الثورة السورية إلينا رائحة عزة أيام الربيع العربي، نسمات الحرية، معاقبة المستبدين، استخذاء بشار الأسد، ثأر المظلومين، لقد رفع إجرام بشار الأسد سقف خيال الشر في المنطقة كلها، وكان السبب هو سكوت المجتمع الدولي عن دم السوريين، ولم يحاسب بشار على جرائمه ورفع سقف العنف في البلاد، والحقيقة أن نظام الأسد نظام مجرم فاسد حقير قاتل ظلم الناس وسجنهم.
في أيام افتتاح مكتبة الشبكة العربية في إسطنبول رأيت فرقة تعزف الموسيقى العربية، كانت تجربة شائقة! رأيت شابًّا سوريًّا تنزل من عينه دمعة وهو يسمع أغنية فيروز “نسّم علينا الهوا” عند مقطع “خدني على بلادي”، ولم أتمالك نفسي في هذا الكرنفال من المشاعر ولحظات الحنين الجماعي، حين فرّت مني دمعة حنين وشوق إلى بلدي مصر.
هذه الأيام نرى من يعود إلى بلاده بعد سنوات كثيرة في الغربة والمنفى، هكذا تعيد الثورة السورية علاقة جيلنا القلقة مع الأمل، ترجع ثقة المهزومين برؤية النصر، تعيد إلى المنفيين حلم العودة، وتسمح للمقهورين بمرور طيف خيال العزة في أحلامهم، تُشعِرنا بأن هزيمة الطغاة قابلة للحدوث، والثأر وارد، ندعو الله أن يبارك في انتصارات هذا الشعب الذي ذاق الأهوال، وتشتت في المنافي وعبر البحار وتعب بحثًا عن الاستقرار، لأن مختلًّا اختطف البلد ولا يريد التنازل عن الحكم.
واجب التذكرة بالمظلومين
الحمد لله على خروج كل شخص من السجن، لقد تأكد لكل عاقل وحشية هذا النظام، ولا أقول انكشفت قصص المعتقلات، فما كنا نسمعه عن مسالخ آل الأسد في كتب أدب السجون كان يعلن عن ذلك من خلال مذكرات كثير ممن تعذبوا تحت سياط الجبناء، وقد رددت مع الجاحظ دعوته للقراء في مقدمة كتابه “البرصان والعرجان”:
“وهب الله لك حبّ الاستماع، وأشعر قلبك حسن التبيُّن، وجعل أحسن الأمور في عينك، وأحلاها في صدرك، وأبقاها أثرًا عليك في دينك ودنياك، علمًا تقيّده، وضالّا ترشده، وبابًا من الخير تفتحه، وأعاذك من التكلُّف، وعصمك من التلوُّن، وبغّض إليك اللّجاج، وكرّه إليك الاستبداد، ونزّهك عن الفضول، وعرّفك سوء عاقبة المراء”.
من الواجب وسط هذا الفرح التذكير ببغض الاستبداد وكراهية الظالمين والشفقة على المسجونين والمعتقلين، لذلك فرحت برحيل هذا النظام، لقد شعرت في اليوم التالي لسقوط الأسد، أن الجو فيه شيء مختلف، لعنة الله على الطغاة يفسدون الهواء، نفرح لأصحاب البلد والأحرار من أهل سوريا الذين فكوا العاني وأطلقوا السجناء والأسرى.
اللعنة على السجون والظلم والطغيان، درس سوريا يعيدنا إلى ملف المعتقلين والمظلومين والمختفين قسريًّا، كانت مشاهد المسجونين تقطع نياط القلب، واللعنة على كل من أعان على الظلم، بلادنا العربية نريدها خالية من السجون.
واجب التوثيق التاريخي
في كتاب “بعث صدام” ليوسف ساسون، نقرأ في المقدمة شيئًا مدهشًا عن المصادر التي عاد إليها المؤلف، وثائق تخصّ حزب البعث وجهاز المخابرات العراقية والديوان الرئاسي ووزارة الإعلام وأشرطة التسجيلات الصوتية لاجتماعات صدام حسين، سيظهر في سوريا وثائق مثل التي ظهرت في بعث صدام واعتمد عليها المؤرخون في تصوُّر حكم البعث العراقي وطريقة عمل الأجهزة الأمنية، في حالة العراق سُرقَت الوثائق وشُحنَت إلى الولايات المتحدة الأميركية، فقد خرجت الوثائق العراقية التي تخص تاريخ البعث والأجهزة الأمنية واستقرت في معهد هوفر التابع لجامعة ستانفورد، أما سجلات الشرطة العراقية فخُزنت في كولورادو، أما الأشرطة الصوتية لاجتماعات صدام فخُزنت في جامعة الدفاع الوطني في واشنطن، وهذه الوثائق تقدّم صورة عن إدارة صدام حسين للعراق.
لذلك من المهم في تجربة سوريا الحفاظ على أي وثائق وأرشفتها وحفظها تضمّ كل معلومات الأجهزة الأمنية وكيف كانت تُدار الدولة، هذه الوثائق توفّر فرصة لمعرفة طريقة عمل هذا النظام بوثائقه فهي مادة ثمينة في تاريخ عهد سوريا السابق.
ومن المناسب الإشارة إلى جهد مشروع الذاكرة السورية الذي تَكلَّل بالنجاح، إذ حافظ على التاريخ الشفوي للثورة، وتوثيق قصص النضال والكفاح، والأصعب تدوين التاريخ وأنت مكسور ومنهزم وفاقد للدافع، لكن مع انتصار الثورة ستظهر قيمة هذا المشروع في المستقبل، وقيمة كل جهد يحترم حرية الإنسان العربي.
واجب مراجعة تاريخ سوريا
كنت أعمل في مكتبة الشبكة العربية، ورأيت حفلة توقيع مذكرات السياسي السوري برهان غليون بعنوان “عطب الذات”، وكذلك ذكريات الصحفي هادي العبد الله بعنوان من يومياتي في الثورة السورية، ومع كرّ السنين وتوالي الأيام رأيت الإحباط في أعيُن القراء وانصرافهم عن القراءة عن مستقبل سوريا أو قراءة أدب السجون، كان تأخُّر النصر في سوريا يصيب الجمهور السوري بالإحباط والحزن وأحيانًا الشعور بالعبثية والأفكار العدمية، خصوصًا مع عودة بشار الأسد إلى جامعة الدول العربية، لكن مع سقوط بشار الأسد عاد الحماس للتذكير بمسار هذه الثورة ضدّ الطغيان.
يجب التذكير وكشف روايات المتورطين مثل مذكرات القادة الإيرانيين في الحرب وقراءة ما كتبوه عن مشاركتهم الفعالة مع حزب الله في دعم بشار الأسد، لأن موجة تحريف الحقائق بدأت من المرشد الإيراني نفسه، الذي يدّعي أن حربه كانت على داعش والإرهاب، وهذا كذب وافتراء، لذلك وجب تنشيط الذاكرة بما دوّنه الجانب الإيراني من تورطهم في هذا الحرب.
مثلًا يأتي في كتاب “رسائل الأسماك” للجنرال حسين همداني قصة التحاقه بسوريا:
“في 03/01/2012 كُلِفتُ الذهاب إلى سوريا في وقت كنت فيه قائدًا للحرس الثوري في محافظة طهران، ولم تكُن تداعيات فتنة 2009 قد انتهت بعد. استدعاني الجنرال محمد علي عزيز جعفري، وبعد أن حضرت في مكتبه وقدّمت له تقريرًا عن أوضاع فيلق طهران، سألني: هل تذهب إلى سورية؟ قلت له: من أجل ماذا أذهب إلى هناك؟ قال: إن الجيش والنظام السوري طلبوا المساعدة، ستذهب كقائد وتعاونهم، ولقد قال لي اللواء قاسم سليماني إنك مناسب لهذه المهمة. ولأنني كنت من المتحمسين للذهاب إلى سورية والدفاع عن حرمة السيدة زينب والسيدة رقية، لم أقل أبدًا: سأفكر فيه بعض الوقت وأجيب، بل منحته موافقتي الفورية”.
هذا جزء من وجهة نظر إيران واعتبارها فتنة، ذهبوا للدفاع عن النظام السوري المستبد، وكذلك مراجعة الحجج الروسية الواهية كما عبّر عنها وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في مذكراته “نحن شعب مهذب” الذي قدّم رواية ملفَّقة أخذها من لسان النظام السوري، وحاول أن يقدم تزييفًا للتاريخ.
لقد تركَت مشاركة حزب الله في سوريا أخدودًا دمويًّا عميقًا، خصوصًا أن الحزب لم يُجرِ عملية مراجعة لهذا التدخل، وتَورُّط الحزب وإيران في دعم المجرم بشار الأسد هو جريمة لا تسقط بالتقادم.
ما يجب التذكير به كذلك خسة بشار الأسد وأنه كان مستعدًّا للتفاوض مع إسرائيل على السلام في الجولان، كما ذكرت عدة مصادر من ضمنها مذكرات وزير الخارجية الأميركي جون كيري الذي قال له الأسد: “كل شيء قابل للتفاوض”، ونقل كيري الرسالة إلى إسرائيل وبنيامين نتنياهو، لذلك يجب كشف وإنعاش ذاكرة الأجيال بما اقترفه الأسد وأبوه من جرائم في حق الشعب السوري.