مدونات

المثقف العربي بين سؤال المكانة والجدوى

ديسمبر 12, 2024

المثقف العربي بين سؤال المكانة والجدوى

تابعت مؤخراً لقاءً لأحد الكتاب المرموقين وكان يبث شكواه من اضمحلال دور المثقف العربي، وغيابه عن موقع الفاعلية المطلوبة، وتبدد الأحلام، وضياع عمره خاصة وأعمار زملائه عامة في نضال طويل لم يعد له قيمة، وكان الأولى به ـ وهكذا يقول لو صرف وقته وجهده وفكره الموجه إلى عالم التأليف نحو أسرته وتأمين واقع معاشي أفضل لهم!


وقبلها بسنوات، نظرت بألم إلى كاتب وسياسي عراقي بارز من أصحاب الوعي والعقل النيّر، وهو يتحسر دامعاً على سنوات قضاها في التفكير الذي لا طائل منه اليوم، مشاركاً الكاتب أعلاه في حزنه على مضّي عمره دون تحقيق ما حمله من آمال ورفعه من شعارات.


وثالث كان فمه مليء بالمرارة لذات السبب.. ورابع وخامس وعاشر…


ليست القضية جديدة، وهي لا تتعلق بموقع ومرجعية المثقف ذاته بالضرورة، فالنماذج الثلاثة أعلاه متنوعة المشارب والأفكار، ولكنها تعيد مرة أخرى السؤال عن موقع المثقف عربياً؟ بل وعن مركزية الفكر والعقل في مجتمعاتنا.


وبدءاً لم تكن الثقافة ولا العلم يوماً باباً للكسب المادي، ولا الالتفاف الجماهيري، بل هي كما الدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر طريق محفوف بالمخاطر، ومحيط جدب إلا ما ندر! ولو فتشنا في تاريخ العلماء والكتّاب على مختلف أصناف تخصصاتهم، لما وجدناهم إلا وقد عاشوا حياة أقل بغيرهم في الجانب المادي، مما يعكس طبيعة المجتمع ذاته من إقباله أو ادباره عن عالم الفكر والتزام الوعي رسالة أصيلة للحفاظ على حاضره ومستقبله.. والاستثناء في ذلك قليل يعزز هذه القاعدة ولا ينفيها.


لذا تقرير الإجابة عن سؤال المكانة بالركون إلى هذا المعيار فيه نظر، بل ان الانسياق خلف هذا التفكير بحد ذاته هو هزيمة كبرى، أن يتماهى المثقف وصاحب الوعي مع تردي المجتمع ولا يبقى حاملاً سلاحه حتى النهاية من اجل اثبات خطأ نبذ العلم والمعرفة او الركون إلى الحياة الاستهلاكية وجعلها أساساً للفهم وسبباً للعيش، وتلك دون شك ليست دعوة للزهد أو التلذذ بقسوة العيش كما يظن البعض.


المثقف لم يكن يوماُ مترفاً فهو اختار الطريق الأٌقل نعومة، واليأس والاستقالة من هذا الواقع إنما يمثل تنازلاً طوعياً عن مهمته، وتبقى الحقيقة الراسخة أن الإنسان الواعي بموقعه هو الأفضل حتى لو كان الكون كله ضده، فنعيم الجهالة مهما بدا جاذباً لا قيمة له، وشقاء العقل فيه كل المعنى والمغزى.


كذلك يمثل سؤال الجدوى الأكثر ضغطاً والحاحاً في هذا السياق، فهل المثقف مطالب بالتغيير الشامل أو رؤية نتاج عمله حتى يشعر ان جهده مقّدر أو عمره لم يضيع دون نتيجة مقبولة؟! وأيضاً تأتي الإجابة بالنفي، فالكل مأمور بالمضي في طريق الحق دون تأكيد مطلق على الزام رؤية نتاج العمل او النجاح فيه، بل الحياة برمتها هي تعبير عن التقلبات والتحولات المتواصلة، فلا ننسى دوماً الدرس العظيم الذي يقدمه لنا القرآن الكريم بأن الأيام دول بين الناس!


نعم ربما هناك وقوع مفهوم في أتون الحزن حين يشعر المرء انه اختار المركب الخطأ ولا سيما وان الأجيال الثورية تجرعت مرارة ذلك بشكل واضح، على ان ذلك لا ينفي صوابية رسالة الوعي والذي يمثل عملية تراكمية متواصلة، وان نسيان الأجيال لا يكون مدعاة للتوقف، فهناك الملايين ممن لم نعرفهم.. ولكن الله يعرفهم!


إن الالتزام برسالة ومهمة إعمال العقل وبث الوعي والتزام اصلاح المجتمعات التزام أصيل بمهمة وغاية وجود الإنسان كما أرادها الله لنا، إذ ثبّت غاية الخلق بعبادته جل وعلا، وتحمل رسالة وهوية مشروع إعمار الأرض، والأولى ـ أي العبادة بمعناها الشامل الواسع ـ هي سبيل انجاز الثانية، فان تمكنا من تلمس ملامح النجاح كان اكتمال عملنا المطلوب، وإن لم نحقق ذلك فتكفينا المحاولة، ويبقى تقدير الجهد مرهون بالنوايا الصالحة والقبول عند الله تعالى.


ومثلما كانت المهمة أعلاه أساسية، فان التزام المثقف بشرف الكلمة وغاية العبادة والاعمار والانتصار لقضايا الأمة والدفاع عن ثوابتها دون انصياع لحاكم ظالم أو انخراط ذليل مدفوع الثمن في سلسلة من التنازلات كذلك لا يقل أهمية، وكلا الأمرين مطلوبان.


شارك

مقالات ذات صلة