سياسة

غانا.. حيث تُصنع الديمقراطية من روح الثقافة

ديسمبر 11, 2024

غانا.. حيث تُصنع الديمقراطية من روح الثقافة

 

تُعيد غانا ترسيخ مكانتها كواحة ديمقراطية مستقرة في غرب أفريقيا، حيث جرت انتخاباتها الرئاسية في أجواء هادئة، خالية من الضجيج السياسي أو الاضطراب الاجتماعي، وهو مشهد نادر في إقليم يعج بالانقلابات والتوترات السياسية. وكأن التغطية الإعلامية غابت عمداً، في ظل توقع شبه يقيني بأن العملية الانتخابية ستمضي كما اعتادت البلاد: انتقال سلس للسلطة وقبول الطرف الخاسر بالهزيمة.

 

وهذه المرة أيضًا، جاء الحدث أكبر من المتوقع، إذ أعلنت اللجنة الانتخابية برئاسة جان مينسا، فوز زعيم المعارضة جون دراماني ماهاما، الذي حقق عودة تاريخية إلى الرئاسة بحصوله على 56.6% من الأصوات، مقابل 41.6% لمنافسه الأبرز نائب الرئيس المنتهية ولايته، محمدو بوميا. بهذا الفوز الساحق، الذي يُعد الفارق الأكبر منذ 24 عامًا، تعيد غانا كتابة تاريخها السياسي، ليس فقط بعودة ماهاما إلى سدة الحكم، بل بانتخاب أول امرأة في تاريخ البلاد كنائبة للرئيس، جين نانا أوبوكو أجييمانج.


وبنسبة مشاركة بلغت 60.9%، أثبتت من جديد أن التنافس السياسي الحاد يمكن أن يفضي إلى صناديق الاقتراع لا إلى الفوضى، وأن القبول بالهزيمة ليس ضعفًا بل أساسًا لشرعية الديمقراطية.


عودة تاريخية، ماهاما يعيد كتابة المشهد السياسي في غانا


بعد غياب دام 7 سنوات، عاد جون دراماني ماهاما إلى سدة الحكم في غانا، في خطوة تاريخية تُعد الأولى من نوعها في تاريخ البلاد، حيث يستعيد رئيس سابق منصبه بفارق انتخابي حاسم. فقد سبق لماهاما، البالغ من العمر 66 عامًا، أن قاد غانا من 2012 إلى 2017  قبل أن يخسر أمام الرئيس المنتهية ولايته نانا أكوفو أدو في معركتين انتخابيتين. لكن هذه المرة، عاد بقوة، محققًا انتصارًا كبيرًا، أذهل المراقبين، وأعاد خلط الأوراق السياسية في البلاد.


وجاءت لحظة الاعتراف بالهزيمة بنفس الروح الديمقراطية التي ميزت المشهد الانتخابي في غانا، إذ اتصل محمدو بوميا، نائب الرئيس المنتهية ولايته، بخصمه ماهاما قبل ساعات من الإعلان الرسمي عن النتائج، معترفًا بالهزيمة.


تحديات الحكومة الجديدة في غانا: إرث ثقيل ومعركة معقدة


وتواجه الحكومة الجديدة في غانا تحديات جسيمة تهدد بعرقلة مسارها منذ اليوم الأول. مع اقتصاد مترنح، ديون متفاقمة، انهيار قطاع الكاكاو، واحتجاجات شبابية تتصاعد، كلها ملفات تنتظر حلولًا عاجلة. فقد خلفت إدارة الرئيس المنتهية ولايته نانا أكوفو أدو إرثًا معقدًا، حيث اتسمت فترته الثانية بالانقسام الداخلي وخيبة الأمل الشعبية. وبينما يعتبره أنصاره خادمًا للوطن، يراه منتقدوه مسؤولًا عن أزمة اقتصادية غير مسبوقة.


في المشهد الاقتصادي، تبرز أزمة الدين العام المتضخم، حيث أصبحت غانا رابع أكبر دولة مدينة لصندوق النقد الدولي في إفريقيا، في ظل ديون داخلية تجاوزت 100 مليار سيدي غاني، إلى جانب تخلفها عن سداد 13 مليار دولار من سندات اليورو. ووفقًا لمحللين اقتصاديين، فإن شروط الديون الجديدة تتطلب من الحكومة تسديد مليار دولار سنويًا من 2025 إلى 2028، وهو ضغط مالي هائل على الخزانة العامة.


كما يقف قطاع الكاكاو، العمود الفقري للاقتصاد الغاني، على حافة الانهيار. فقد فشلت هيئة تنظيم الكاكاو، لأول مرة منذ 32 عامًا، في الحصول على قرض دولي بقيمة 1.5 مليار دولار، ما يعكس اهتزاز الثقة الدولية في قدرة الهيئة على إدارة هذا القطاع الحيوي. ويُتوقع أن يتفاقم الوضع مع تراجع الطلب العالمي وزيادة المعروض من الإمدادات الجديدة، الأمر الذي ينذر بتداعيات على المزارعين وصناعة الكاكاو ككل.


أما على الصعيد الاجتماعي، فإن معدلات البطالة المرتفعة بين الشباب تزيد من تعقيد المشهد. ويشير الخبراء إلى أن هناك شعورًا متناميًا بخيبة الأمل في أوساط الشباب، الذين باتوا يرون وعود الحكومة السابقة بتوفير فرص العمل مجرد شعارات جوفاء. ووسط كل هذا، تواجه الحكومة الجديدة موجة من الانتقادات الشعبية والدعوات للإصلاحات الجذرية، في ظل اتهامات بـالفساد المالي وفرض ضرائب مرهقة على الشركات، ما أدى إلى انهيار العديد من الشركات المحلية. ويُتوقع أن تكون إدارة الأزمة المالية والاقتصادية أول اختبار حقيقي للحكومة الجديدة، فإما أن تنجح في استعادة الثقة المحلية والدولية، أو تجد نفسها محاصرة بالأزمات في وقت مبكر من ولايتها.


ولقد كانت وعوده واضحة، لا تحتمل التأويل، فالرجل طرح رؤيته على أسس التعافي الاقتصادي وخلق فرص العمل وترسيخ العدالة الاجتماعية، وهي الوعود التي حملت الأمل في عيون الناخبين، ودفعته نحو فوز تاريخي.


ولم يكن هذا النصر الرئاسي وحده، بل جاء مدعومًا بتفوق حزبه، المؤتمر الوطني الديمقراطي، الذي حصد الأغلبية في البرلمان، ما يعني أن قبضة ماهاما على مقاليد الإصلاحات ستكون أكثر رسوخًا وأقل عرضة للعرقلة. لقد منحته هذه الأغلبية فرصة ذهبية لتنفيذ وعوده الاقتصادية والاجتماعية دون عراقيل برلمانية، مما يعزز من قدرته على تحقيق “التحول المنشود” الذي وعد به.


ومع اقتراب السابع من يناير/كانون الثاني، يترقب الغانيون لحظة أداء اليمين الدستورية، حيث سيصعد جون ماهاما إلى المنصة، يرافقه نائبته المنتخبة جين نانا أوبوكو أجييمانغ، في لحظة تجسد الأمل في مستقبل أكثر إشراقًا لشعب يطمح في الخروج من أزماته الاقتصادية نحو عهد جديد من الازدهار والاستقرار.


الحالة الغانية كيف يمكن استيعابها؟


في عام 2013، غادرت النيجر متوجهًا إلى غانا، بهدف دراسة اللغة الإنجليزية، تلك اللغة التي أضحت مفتاحًا ضروريًا لفهم السياسة الدولية وللإبحار في العلوم السياسية، علمٌ يُعدُّ اليوم وليد الفكر الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية، عندما أدرك العالم أن تقنين هذا المجال قد يسهم في تفادي ويلات الحروب الكونية مستقبلاً.


أوقفت قيدي في جامعة الكويت، متفرغًا لاكتساب اللغة، وعشت في غانا قرابة عام ونصف. في هذه الفترة، لم أتعلم اللغة الإنجليزية فقط، بل عايشت ثقافة الشعب الغاني عن قرب، واكتشفت أن ما يحدث على المستوى السياسي في هذا البلد، لا يمكن فصله عن أبعاده الاجتماعية والثقافية، وهو ما قد يفسر جزئيًا لماذا تظل الديمقراطية الغانية استثناءً مشرقًا في غرب إفريقيا، حيث تفشل دول أخرى في ترسيخ ذات النموذج.


في غانا، يبدأ يوم الناس باكرًا. عند الرابعة فجرًا، تستيقظ البيوت، وتنطلق الأيادي لتنظيف المنازل وما يقابلها من الشوارع، حيث يعتبر الغانيون نظافة الحي مسؤولية كل ساكن، وليس مسؤولية الحكومة. وبعد انتهاء مهام التنظيف، ينطلق الجميع إلى أعمالهم، رجالًا ونساءً، في تجسيد لثقافة تُعلي من قيمة العمل الفردي.


وما يميز غانا عن كثير من الدول المجاورة هو اعتقاد المجتمع الراسخ بأن المرأة شريك اقتصادي في البيت، وليس مجرد تابع مالي للرجل. فالزوج والزوجة يتقاسمان مسؤوليات المنزل المالية، الأمر الذي جعل المرأة في غانا قوة اقتصادية ذات حضور في المجتمع، على عكس الصورة النمطية التي تسود في بلدان ذات أغلبية مسلمة مثل النيجر ومالي والسنغال، حيث يُنظر إلى الرجل باعتباره القوام على الأسرة، وصاحب الولاية المطلقة. في غانا، لا يخجل الرجل إذا كانت زوجته تكسب مالاً أكثر منه، لأن الكفاءة المادية هنا تقاس بالقدرة على توفير المساهمة، وليس بهوية المساهم.


انعكست هذه الثقافة الاجتماعية بوضوح على النظام السياسي الغاني. ففي غانا، لا يُلقي المواطن باللوم على الحكومة في كل شيء، بل يعتقد أن رجال الأعمال والأثرياء المحليين هم من يتحملون مسؤولية تطوير الأحياء والمناطق التي يعيشون فيها. يندر أن تسمع غانيًا يشكو من “المستعمر البريطاني” كسبب لتعثر التنمية في بلاده، فبعد مغادرة البريطانيين وتسلم القادة الغانيين الحكم، يعتقد الغانيون أن المسؤولية أصبحت داخلية محضة. لذلك، إذا فشلت الدولة في التنمية، فاللوم يقع على القادة المحليين وليس على التدخل الأجنبي أو الاستعمار السابق.


هذا المبدأ الاجتماعي انعكس أيضًا على السلوك الانتخابي. فالغانيون يعتبرون الانتخاب قرارًا حاسمًا، وإن أخطأوا في اختيار رئيس غير كفء، فلا يتجهون إلى الإطاحة به قبل نهاية ولايته. بل ينتظرون موعد الانتخابات المقبلة ليصححوا خطأهم عبر صناديق الاقتراع، مؤمنين أن الحكم الديمقراطي يمنحهم الوسيلة المناسبة لتغيير القادة، وليس بالانقلابات أو الاحتجاجات العنيفة.

هذا هو أحد أسباب استقرار الديمقراطية في غانا، بخلاف كثير من دول غرب إفريقيا التي تعاني من الانقلابات المتكررة. لدى الغانيين قناعة بأن الرئيس المنتخب جاء بقرار شعبي، وأن هذا الخطأ يمكن تصحيحه في الجولة الانتخابية المقبلة، وليس عن طريق الفوضى.


وفي تقديري، لو لم تصدر القوى الغربية مفاهيم الديمقراطية إلى غانا، لوجد الغانيون طريقةً مماثلةً لحكم أنفسهم. فالمجتمع الغاني، بعاداته اليومية وأخلاقياته في العمل، هو بيئة خصبة لنمو الديمقراطية كنظام حكم. فثقافة المسؤولية الفردية، والنظافة، واحترام العمل، والاعتقاد بأن المجتمع مسؤول عن نفسه، كلها قيم تتسق مع روح النظام الديمقراطي. لهذا، فإن ما يجري في غانا ليس مجرد نجاح للديمقراطية المستوردة، بل هو تجربة غانية خالصة، حيث أعادت الثقافة المحلية تشكيل مبادئ الديمقراطية، لتصبح جزءًا من الهوية الوطنية، وليس مجرد نظام حكم مستورد.


جميع ما سبق، يفسر لماذا في قلب غرب إفريقيا، تبرز غانا كـ “مدينة الديمقراطية الأفريقية على التل”، وهو لقب لم تأتِ به من فراغ، بل هو خلاصة لتاريخ سياسي عريق، ومشروع وطني متواصل لبناء ديمقراطية راسخة ومستدامة. يعود هذا الإرث إلى عام 1957، حين قاد الزعيم الثوري الأفريقي كوامي نكروما معركة استقلال غانا، لتكون بذلك أول دولة في إفريقيا جنوب الصحراء تحقق الاستقلال. لاحقًا، وبدفعة جديدة من الإصلاحات الديمقراطية، انتقلت البلاد في 1992 من حكم المجلس العسكري إلى نظام ديمقراطي متعدد الأحزاب تحت قيادة الرئيس جيري رولينجز، في حدث وصفه كثيرون بأنه الموجة الثالثة من الديمقراطية الأفريقية.


على مدى العقود التالية، واصلت غانا مسيرتها الديمقراطية بخطى ثابتة، حيث أجرت انتخابات دستورية منتظمة أتاحت تداول السلطة سلميًا بين الأحزاب السياسية. هذه التقاليد جعلت من غانا نموذجًا تحتذي به الدول الأفريقية الأخرى، ولا غرابة أن تصفها كثير من القوى الدولية بأنها “منارة الديمقراطية في إفريقيا”.


وحظيت هذه التجربة الديمقراطية الغانية بتقدير دولي واسع، حيث توصف بأنها “حصن الديمقراطية الأفريقية”، لا سيما في منطقة باتت تشهد انقلابات عسكرية متكررة في بلدان الجوار مثل بوركينا فاسو، النيجر، ومالي. ولعل هذا الاستقرار هو ما دفع معهد الولايات المتحدة للسلام إلى وصف غانا في 2023 بأنها “الحصن الديمقراطي في غرب إفريقيا”، وهو اعتراف دولي لم تحظ به سوى قلة من الدول الأفريقية.


أما في الساحة الأوروبية، فقد وصفت وزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتيل، غانا بأنها “منارة للحرية والديمقراطية في غرب إفريقيا” في خطابها عام 2022، وهو الوصف ذاته الذي كررته نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس خلال زيارتها إلى أكرا في 2023، حين أكدت أن غانا تمثل “منارة للديمقراطية” على مستوى القارة الأفريقية.


وهكذا، تتحول غانا إلى مرجع أفريقي في كيفية بناء دولة ديمقراطية حقيقية، حيث الحاكم يخضع للمساءلة، وحيث التداول السلمي للسلطة لا يُعد استثناءً، بل هو القاعدة الذهبية التي تُدار بها السياسة. لهذا السبب، ينظر إليها الأفارقة، بل والمجتمع الدولي، بوصفها الدولة النموذجية، حيث الاستقرار السياسي ليس مجرد شعار، بل واقع معيش.



شارك

مقالات ذات صلة