“جُبِلَت القلوب على حبّ من أحسن إليها”، حين تفقد حريّتك وتفقد الأمل في استعادتها ثانيةً لفرط ما عايشت من ماتوا أو قتلوا دون أن يدري بهم أحد أو يشيّعهم أحد، ستمتنّ بقيّة عمرك لمن يفتح الزنزانة عليك ويقول لك “اخرج؛ أنت الآن حرّ”، لن تسأله وقتها عن موقفه من حرية المرأة والنوع الاجتماعي والتغير المناخي، لن تسأله وقتها، فقط ستضمّه شاكرًا أو تتركه ذاهلاً إلى بيتك (لو لم تفقد الذاكرة تحت التعذيب).
وددتُ لو أقبّل أيدي ورؤوس كلّ فرد فتح زنزانة أو هدم جدارًا وحرر من فيهم، كائنًا من كان (جنسيّةً أو فكرًا أو غرضًا أو انتماءًا) ولو سأواجهه بعد يوم (شخصًا أو تنظيمًا أو مشروعًا) ولو سيحرق العالم بعد قليل (ألا يحقّ لعوامِ المحشورين في حفرةٍ تحت الأرضِ أو فوقها أن يتمنّوا خروجهم ولو سيهلك الكون كلّه؟).
استدراك على هامش الزلزلة
لم أقضِ في معتقل الرئيس السابق محمد مرسي سوى أشهرٍ قليلات، وعلى سبيل الاستثناء مُنِحتُ في هذه الاعتقالة حقوق لم أمنحها في غيرها من الاعتقالات، نكايةً في الإخوان، رغم ذلك كان الأمر يستحقّ عندي فرحًا عارمًا بسقوطه لسابق معرفتي بأنّه السبيل الوحيد لخروجي (سبق وقيلت من عدد غير قليل من أكبر قيادات الجماعة وقتها فرّج الله كربهم: ستبقى بالداخل ما دمنا في السلطة؛ فاقتصرت الأمنية “يارب ريحهم من هنا”) رغم إدراك القادم بعد السقوط؛ فقط لأنه كان سجّاني، حرفيًّا لإدانتي بتهمة إهانته، ومجازًا لأنّه مسؤول بصفته الرئيس . عدتُ للسجن فعلاً بعد شهور على يد ذات السلطة/الفرد الذي أخرجني.
ومازلتُ أحمل ذات الشعور، الفطريّ، المجرّد من الفكرة وربّما حتى المصلحة بنظرتها الأعمّ: من حقّي كمعتقل الحريّة فورًا ولو بهلاك العالم كلّه؛ سأفرح بسقوطه لأجل أصحابي الذين سقطوا ولأجل إصاباتي وفزعي الذين اعتديَ عليهم معي في الشارع ولأجل بيتي وبيت أهلي اللذين هوجما ولتعرّضي للتعذيب وتكفيري أنا و”اللي خلّفوني”.
من حقي “الشماتة” -شعورًا لا سلوكًا- الشماتة في النهايات غير العادلة لكنّها تشفي غليلي، ولو سأرفضها كمبدأ، ولو سأقف مع من تعرّض لها (المجرم السابق بحقّي) وأدعم حقّه الأصيل في العدالة وأخوض المعارك لأجل هذا وأدفع ثمنها بكامل الرضا.
أحب الخروج بصور أكثر مسالمةً ولطفًا بلا شك، لا أحب دخول المعتقل أصلاً، كما أحب الحصول على حقوقي بعدالة في منظومة قانونيّة نزيهة، أو في مسار سياسي سلمي وديمقراطي، لكن حين يغيب هذا سأفرح بحصولي على هذا الحق ولو كان تحطّم الكوكب كلّه هو السبيل لذلك دون الشعور بالذنب.
لن أشارك في هذا التحطّم ولن أسعى له، غالبًا سأسعى لخلافته فور حصولي على حريّتي، لن أفكاري وتقديراتي وانحيازاتي سأتيح لها المجال بعد قليل وأنا في بيتي أو مكتبي أو حتى على الرصيف، لكن فطرة الحريّة ستقدّم نفسها على كلّ شيء-بما في ذلك شيءٌ من إرادتي ما دمتُ لن أتورّط شخصيًّا في شيء يصطدم بمبادئي ولا قناعاتي تؤذي أحدًا أو تضرّه.
هذا هو بالضبط منطلق فرحي مع الأهل في سوريا ولهم؛ لأن خروج المعتقلين من المعتقل وعودة المنفيّ والمشرّد لبلده وبيته حقّهم من اللحظة الأولى، ووجودهم في المعتقل أو الشتات وتعرّضهم لاعتداء أو أذى من أي نوع ومن أي جهة هو الجريمة الذي يجب أن تقف فورًا، مهما كان الثمن.
يرعبني القادم في سوريا وتصوّراتي محصورة بسيناريوهات كابوسيّة، خاصّة أثر ذلك على المقاومة في فلسطين ولبنان، وعلى العدوّ في كلّ الساحات، لكن سيظلّ فرحي لهم ومعهم، وسأظلّ أحمّل السلطة المجرمة الساقطة مسؤولية كل الحاصل، دون إنكار بقيّة العوامل أو تجاهلها، ودون تجاهل موقفي ممن في المواجهة أو المطروحين كبديل بعد انتزاعهم للسلطة.
سأشاركهم الفرح الآن، كما سأشاركهم الرعب بعد لحظات، وما بقيَ دوري محصورٌ في الرأي والكلمة، فسأبتلع ادّعائي للمعرفة وأقف معهم وراءهم دعمًا للصمود والمقاومة التي كانت، والتي ستأتي: ضد الاستبداد وضد الإرهاب وضد التدخّل الأجنبي كلّه إيرانيًّا وروسيًّا أو تركيًّا وأمريكيًّا، وقبل هذا وكلّه ضد الاحتلال مطلقًا ودائمًا.