آراء
تخيل طيلة 50 عاما من الظلم والشقاء والفقر والسجون والقتل، أن تحكمك دمية؟ تمنعك من الكلام، وتمنعك من التنفس، وتحجب عنك نور الشمس، وتحرمك من الهواء الخالي من الخوف والتشبيح، تخيل أن تكون محكوما طوال عمرك بنظام يعلق لك شماعة الطائفية ليل نهار، وهو بذاته محكوم بالطائفيين الذين يكن لهم الولاء، ويجنّد الطائفيين الذين يمزقونك إربا، ويأمرونك بالسجود له والتسبيح باسمه وتقبيل صورة ربه، ثم إذا قلت “لا”، فكأنما عصيت إلها لا يرحم، فالله الذي تعصيه ليل نهار ولا يعذبك ولا يلقيك في صيدنايا، يظن أحد خلقه أنه يضاهيه في الألوهية والربوبية، وعليه فيشرك نفسه لديك في العبودية له، ليس مع الله، على فظاعة ذلك، وإنما من دون الله، وإن كان الله الذي تعبده رحيما، فإن ذلك الصنم الذي تسجد له مكرها لا يعرف عن الرحمة شيئًا، ومع ذلك كله، فإنه دمية!
تمثال، دمية تحركها مصالح الغزاة، ويلعبون بها -وهو الذي اتبع إلهه هواه-، ويجعلونه بين أصابعهم كأنما يقلّبون عروسًا، فيقتلون شعبه لأجله ويقتله من أجلهم، يقدمون لسيادته القرابين، فيمنحهم سيادتَه ذاتها قربانا لهم، ويهجّر اثني عشر مليون إنسان، في البر والبحر وغياهب الجب تحت الأرض، ليحلّ محلهم الدخلاء الجدد، الذين يأتون بأعلام لا تشبه الأعلام، وبأفعال جديدة على بلاد الشام، وبألسنة نصفها أعجميّ معرّب، ونصفها عربيّ معجّم، لكنها تلتقي جميعًا على كلمة واحدة حولها ثرثرة، يمجّدون فيها آلهتهم الخاصة، بينما يذبحون السوريين أطفالا ونساءً وشيوخًا تحت أقدامهم، على سبيل القربى والتقيّة.
آلهةٌ في كل مكان، وحولها الرايات الصفر والحمر والسود، أصنام وأزلام من عمل الشيطان، من إرث إبليس الأكبر الذي ورّث السوط والزنزانة، والبرميل والزنّانة، لذلك الابن الطاغية سليل الطواغيت، فكان حقا عليه أن يجعل له في كل ميدان صورة، وفي كل ساحة هيكلا منصوبا، وفي كل شارع هُبَلًا عملاقا، لا يكتفي بإيصال رسالة مفادها أن “الأخ الكبير” يرقبك على غرار رواية 1984، وإنما الأب الكبير يركبك، يمتطي ظهرك بينما يأمرك بالركوع له، ويقصمك بينما تحاول الرفع منه، ويشق صدرك إذا كتمت غيظا أو حنقا، ويقتلع حنجرتك إذا علقت فيها غصة أو حسرة، أو شطر من هتاف.
كان التمثال الأول هو الخوف، وسقط من أول يوم في الثورة مهما حاول ترميمه بعدها، لأن الذين لا يخافون رحلوا، والذين قبعوا تحت خوفه كانت بداخلهم شعلة الجسارة، لكنهم علقوا هناك إلى حين، ثم كان التمثال الثاني هو القدرة والإرادة، من يُسقط بشار المسنود من كل جانب؟ من يسقط قصرا مشيدا ويقصف عمرا مديدا؟ من يستطيع قطع كل تلك المسافات أمام كل تلك الأرتال تحت كل تلك الطائرات ليحرر قرية واحدة؟ فجاء أمر الله وسقط ذلك التمثال الهائل أسرع مما اعتقد الجميع، ولو كان معنا أكثر خلق الله في عمر الكون تفاؤلا لما توقع ذلك التقدم السريع لأصحاب الديار، وذلك الانهيار والتشرذم والتصدع المستحيل، وتمدد الثوار حتى وصلوا إلى دمشق، وكانت الجموع معهم ساعةً بساعة، وشبرا شبرا، حتى وصلوا إلى القصر، واختفى ذلك الملعون.
ثم كان تمثال قوة العدوّ، وحصانة الممانعة، وبروباجندا المقاومة، التمثال الذي كان في نفوس البعض جهلًا أو عدوانا، والعلكة التي يلوكها “المسندون” في تبريرهم مجازرهم للدفاع عنهم، اليوم فُضحوا جميعا لمن لم يكن يعلم جرائمهم، وظهر قدر الله أن تكون معركة غزة خالصة من دونهم، ولو بذلوا فيها دماءهم فإنها مردودة عليهم، فالله طيب لا يقبل إلا طيبا!
ثم كان تمثال السجون، تلك الأسطورة الحية الميتة الخالدة في آن واحد، دوامة الموت اللانهائي، ومقابر الأحياء التي لا يعلم أحد عنها شيئا، معمل التجارب الذي يفضي إليه كل هؤلاء المجرمون بأمراضهم النفسية الحقيرة، فيفرغونها في أجسام بريئة مقيّدة، داخل مسالخ بشرية تنصهر فيها الجلود وتنسحق العظام وتراكم الجثث في زنازين الملح، كل تلك الصناديق المغلقة بأحكام فوق الأرض وتحت الأرض، في فروع المخابرات والمطارات والسجون بلا عدد ولا إحصاء، حتى كُسرت الأقفال، وقطعت الأغلال، وخرج الناس منها أفواجا لا يعلمون ماذا يحدث، فيخبرهم القوم، ولا أحد يصدق، لا الأسير ولا المحرِّر، أن ذلك يحدث فعلا، فينطلقون إلى الفضاء، إلى الفراغ، إلى السعة، إلي أي مكان لا يُحسب فيه الهواء بالمتر المكعب، داخل مكعباتهم المترية!
ثم كانت كل تلك التماثيل في كل زنقة وحارة، مئات التماثيل التي كأنها يلد بعضها بعضا. أي دولة في العالم قادرة على النحت بتلك الكثافة المزعجة المقززة؟ أعدموا التماثيل، شنقوها، رأوا فيها حافظ نفسه، تخيلوها جسده، فمزقوها شر ممزق، أسقطوها ولعبوا بها الكرة، جروها خلف العربات، فتتوها تحت أيديهم ولاكوها بأسنانهم، ليعلنوا إسقاط ذلك التمثال الكبير، عائلة الأسد التي لم تجد إلا فعل النعام في كل وادٍ، عدا الاستذئاب على شعبها.
ثم كان تمثال بشار نفسه، الذي ارتبط به اسم سوريا كأنك لا تتخيله من دونه إلا باجتهاد ضاق وجهد مضنٍ، ذلك المجرم السفاح مصاص الدماء صاحب البراميل المتفجرة عميل الخارج والأجندات عبد السلطة و”ديلر” الكبتاجون سجّان الشعب وقتّال الرضع الطائفيّ المحورجيّ السافل النذل الخائن ابن الخائن، لم يكن هناك أجمل من مشهد دخول منزل بشار نفسه في دمشق ليسقط التمثال الأخير، بينما يعبث السوريون بفكاهة بمحتويات المنزل الوضيع بسكانه السابقين، وتقف فتيات ونسوة في غرفة ابنة بشار، بينما يسأل الشاب وهو يضحك على سبيل الدعابة: “وين قسم الرجالي؟ وين قسم الرجالي؟”، والحقيقة يا عزيزي أنه طوال عمر بشار وأبيه في ذلك البيت؛ لم يكن ثمة قسم “رجالي” في المنزل! رحل بشار، سقط بشار، اندحر بشار، وبقيت سوريا، وربح بيع الرجال!