مدونات
في أوائل التسعينيات، كان تيدي كاتس، المعروف بتوجهاته النقدية تجاه الرواية الإسرائيلية حول أحداث النكبة والصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، يسير مدفوعًا بحسّ البحث عن الحقيقة الأكاديمية أثناء دراسته في جامعة حيفا، ليكون ذلك دافعًا أساسيًا لاختياره (النكبة) موضوع أُطروحة الماجستير الخاصة به. وكلمة نكبة، المشتقة من الجذر العربي “نكب” – والذي يعني (المصيبة الكبيرة أو الكارثة) – لن تُستخدم، طبعًا، للإشارة إلى ما ينظر إليه غالبًا في الأوساط الإسرائيلية على أنها حرب (الاستقلال أو التحرير)، بل ستشير بالطبع للكارثة التي حدثت للفلسطينيين عام 1948، نتيجة للمجازر والتهجير القسري الذي تعرضوا له أثناء قيام دولة الكيان الصهيوني. ليقرر كاتس بدء العمل بتوثيق المجازر التي يعتقد أن القوات الإسرائيلية ارتكبتها في القرى الفلسطينية خلال حرب 48، ليلفت نظره أثناء ذلك قصة قرية الطنطورة، وهي قرية ساحلية جنوب حيفا كانت تعرّضت للهجوم في مايو من العام نفسه، والهجوم يحمل في طياته الكثير من الأحداث المروعة التي قد يكون تعرض لها سكان القرية.
ليجد كاتس أن الطريقة الأفضل لإعادة فتح ملف حساس وشائك هي الشهادات الحية. ليتم عام 98 أُطروحته التي اعتبرت عملًا أكاديميًا هامًا، لكن بمجرد وصول نتائج أُطروحة كاتس لوسائل الإعلام، قام بعض الجنود السابقين الذين اتهموا بارتكاب المجازر برفع دعوى قضائية ضد كاتس بتهمة التشهير، ليتراجع عن بعض ما ورد في أُطروحته لاحقًا تحت ضغط المحاكمة. ما أخبرتك به الآن هو حادثة ترددت أصداؤها في كل العالم، كلحن قديم عاد لينبض في القلوب.
والسبب، فيلم وثائقي يحمل رؤى غير مألوفة وأصواتًا تنبثق من أعماق الحقيقة. فيلم “طنطورة” وكما يُلفظ بالعبرية “تانطورا”، من إخراج ألون شفارتس، والذي يستعرض فيه شهادات لناجين فلسطينيين وجنود إسرائيليين سابقين للمجزرة التي وقعت في قرية طنطورة عام 48 خلال النكبة، أثار الفيلم الكثير من الجدل وذلك لتأكيد عدد من الجنود وقوع المجزرة، مما عرض الفيلم لانتقادات في أوساط الإسرائيليين الذين شككوا في شهادات الضحايا.
ليكون السؤال الآن: ما علاقة هذا الفيلم بأفق الدولة الفلسطينية؟ فيلم “طنطورة” لا يعتبر مجرد سرد لحكاية ماضية، بل هو مفتاح لفهم آلية التفكير الإسرائيلية القائمة على متاهة معقدة من الأوهام والحقائق المشوشة التي شكلت الوعي الجماعي الإسرائيلي. فالفيلم كشف لنا عن تمسك المجتمع الإسرائيلي بروايته الخاصة المحملة بمرارات العنصرية التي عايشها الشعب اليهودي في الشتات، ليعيد تشكيلها لتصبح سيفًا مرفوعًا في وجه كل ما هو ليس بيهودي. وهذا ما يعرف باسم العنصرية المضادة، والتي يمكن اعتبارها اليوم جزءًا من الأيديولوجية الصهيونية القائمة على تصورات تمييزية، مثل أن الدولة اليهودية يجب أن تظل مقتصرة على اليهود.
وهذا ضرب بعرض الحائط فكرة حل الدولة الواحدة التي تبنتها منظمة التحرير الفلسطينية فترة الستينات، لكنّ تبنيها لذلك لم يستمر طويلًا نتيجة للضغوط الدولية والتغير في موازين القوى بعد حرب 67، واقتناع المنظمة بأن حل الدولة الواحدة مرفوض تمامًا من الجانب الإسرائيلي، لتكون هذه المعضلات دافعًا لتبني منظمة التحرير الفلسطينية حل الدولتين. الذي أصبح لاحقًا، عقب توقيع اتفاقية أوسلو، الإطار الرسمي للمفاوضات التي لم تنجح بوقف الأنشطة الاستيطانية والعدائية، مما خلق شعورًا بخيبة الأمل في الأوساط الفلسطينية، الأمر الذي ساهم في تعزيز مكانة حماس لتقدم نفسها وفكرتها القائمة على المقاومة المسلحة كوسيلة وحيدة لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني. ليتبع ذلك دق الانتخابات التشريعية عام 2006 المسمار الأخير في نعش استفراد منظمة التحرير الفلسطينية بالقرار الوطني لعقود، خالقة تحولًا تاريخيًا في المشهد السياسي الفلسطيني، و فاتحةً الباب أمام انقسام داخلي عميق.
انعكس لاحقًا حتى على الجغرافيا الفلسطينية، ومقسّمًا لقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 47. وبالطبع كان لهذا التقسيم آثاره على القضية الفلسطينية، ويتجلى ذلك بعدم قدرة الفصائل الفلسطينية على وضع رؤية واضحة و مشتركة لتأسيس دولة فلسطينية ذات سيادة، أي حتى لو توفرت السبل لتحقيق ذلك، فهذا الشرخ سيعيق مشروع الدولة قبل الاحتلال الذي عمل على توطيد جبهته الداخلية من خلال محاولة بناء تحالفات قوية بين الأحزاب المتدينة والعلمانية.
وعلى رغم تعقيد هذه التحالفات وإثارتها للجدل، إلا أن بنيامين نتنياهو طوال فترتي حكمه راهن على هذه التحالفات باعتبار أن الجميع ورغم الاختلافات الفكرية يسعى للحفاظ على أمن الدولة. وهذا ما لا نراه على الجانب الفلسطيني، إذ كان العائق الأبرز أمام محاولات توحيد الصف الفلسطيني هو عدم التوافق الأيديولوجي، والذي بدوره شق شرخًا في الموقف العربي والإسلامي، مما حد من إمكانية تقديم دعم متكامل للفلسطينيين. وفي النهاية، يبقى الأفق الفلسطيني ضبابيًا.
على الرغم من التضحيات الشعبية التي نُقشت بدماء الأحرار، فإن الانقسامات الداخلية تظل تعرقل الخطى. إذ يبقى التوافق الداخلي ضرورة لا بد منها؛ فالحلم لن يتحقق إلا حين يتوحد الصوت الفلسطيني، ليشرق أفق فلسطين بإرادة أحرار لا يرضون الهزيمة.