سياسة

هل انتهى العصر الفرنسي في تشاد؟ إلغاء التعاون العسكري وأبعاده الجيوسياسية

ديسمبر 4, 2024

هل انتهى العصر الفرنسي في تشاد؟ إلغاء التعاون العسكري وأبعاده الجيوسياسية

في خواتيم شهر نوفمبر الجاري، أعلنت حكومة تشاد عن إلغاء اتفاقيات التعاون الأمني والدفاعي مع فرنسا، في خطوة مفاجئة أتت بعد زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان-نويل بارو للعاصمة نجامينا. وفي بيان مقتضب نشرته وزارة الخارجية التشادية على منصتها الرسمية، أكد وزير الخارجية كلام الله أن “حكومة جمهورية تشاد تبلغ الرأي العام الوطني والدولي بقرارها إلغاء اتفاقية التعاون الدفاعي الموقّعة مع الجمهورية الفرنسية”.


هذا القرار يتطلب من القوات الفرنسية، المتمركزة في تشاد بواقع نحو ألف جندي، مغادرة البلاد. وتعتبر تشاد واحدة من آخر الحلفاء الاستراتيجيين لفرنسا في القارة الأفريقية، وتحتل موقعًا رئيسيًا في الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل. وأوضح البيان أن تشاد تسعى إلى فرض سيادتها الكاملة بعد 66 عامًا من الاستقلال، مشددًا على أن إنهاء اتفاقية التعاون الدفاعي المعدلة عام 2019 يمثل فرصة لإعادة النظر في شراكاتها الاستراتيجية.


جذور الاتفاقية ودور فرنسا


تاريخيًا، تعود جذور هذه الاتفاقية إلى فترة الاستعمار الفرنسي لتشاد، وتعززت بشكل أكبر بعد الاستقلال في عام 1960. وجرى توقيع أول اتفاقية تعاون عسكري وأمني بين البلدين عام 1976، مع تعديلات لاحقة كان آخرها في عام 2019. تضمنت الاتفاقية تدريب القوات المسلحة التشادية، وتعزيز قدراتها اللوجستية، وتوسيع التعاون الاستخباراتي والعسكري. وبموجبها، أنشأت فرنسا قواعد عسكرية في تشاد، من أبرزها قاعدة جوية في العاصمة نجامينا، حيث تتمركز اليوم قوات فرنسية أغلبها قادمة من النيجر بعد طردها العام الماضي.


العلاقة المعقدة مع عائلة ديبي


لطالما شكلت فرنسا داعمًا أساسيًا لعائلة ديبي التي حكمت تشاد لأكثر من ثلاثة عقود. تدخلت باريس عسكريًا أكثر من مرة، أبرزها في عامي 2008 و2019، عندما قصفت المتمردين الذين هددوا العاصمة نجامينا. وبعد مقتل الرئيس إدريس ديبي إيتنو في معارك مع المتمردين عام 2021، ساندت فرنسا نجله الجنرال محمد إدريس ديبي، ووقفت إلى جانبه خلال فترة انتقالية مضطربة حتى انتخابه رئيسًا في مايو الماضي.


لذا، إلغاء الاتفاقية يعكس رغبة تشاد في إنهاء النفوذ الفرنسي المتجذر في مؤسساتها الأمنية والعسكرية. ويطرح القرار تساؤلات حول مستقبل التعاون الأمني في المنطقة، حيث كان لتشاد دور مركزي في مكافحة الإرهاب، لا سيما ضمن التحالفات الدولية والإقليمية. كما يشير القرار إلى استعداد تشاد لإعادة تشكيل شراكاتها بعيدًا عن الاعتماد التقليدي على فرنسا، في سياق متغير يعيد رسم خرائط النفوذ في القارة الأفريقية.


في ظل هذا التطور المفاجئ، تتصاعد الأسئلة حول مغزى قرار تشاد بإنهاء اتفاقيات التعاون الدفاعي مع فرنسا. هل تسير تشاد على خطى جيرانها في منطقة الساحل—مالي، بوركينا فاسو، والنيجر—الذين أعلنوا قطيعة كاملة مع باريس، المستعمر القديم؟ أم أن القرار يحمل أبعادًا أعمق تعكس تغيرًا سطحيًا دون قطيعة حقيقية مع النفوذ الفرنسي، لإلهاء الشعب؟


كما يبرز تساؤل محوري: من هي القوة أو الدولة التي ستملأ الفراغ الذي ستتركه فرنسا؟ وهل نحن أمام تحول جذري في خريطة الشراكات الاستراتيجية لتشاد، أم أن النفوذ الفرنسي سيستمر خلف الكواليس؟


للإجابة على هذه التساؤلات، يبدو من الضروري بالنسبة لي التوقف عند نقطتين رئيسيتين:


أولاً: إرهاصات القرار وما سبقه من أحداث، لفهم السياق السياسي والعسكري الذي أدى إلى هذه الخطوة المفاجئة، خاصةً مع تاريخ الدعم الفرنسي لعائلة ديبي على مدار العقود الثلاثة الماضية.


ثانيًا: خطاب الرئيس التشادي المتعلق بهذا القرار، والذي يجب تحليله في ضوء تعقيدات المشهد الجيوسياسي الإقليمي، حيث تشهد المنطقة تصاعدًا في التوترات وتحولات في الولاءات والتحالفات.


لا يخفى على أي مراقب أن الشعب التشادي من أكثر الشعوب الأفريقية رفضاً للوجود الفرنسي، وقد شهدت البلاد على مدار العقود الماضية سلسلة من الاحتجاجات الشعبية المطالبة بطرد فرنسا وإغلاق قواعدها العسكرية. حملة “تشاد حرة، فرنسا برا”، التي اكتسبت شهرة واسعة وانتشرت في بلدان أخرى مثل مالي والنيجر، كانت في الأصل نتاج النشطاء التشاديين. وفي ظل حكم الرئيس الراحل إدريس ديبي، اندلعت ما لا يقل عن عشر مظاهرات كبرى تطالب بإنهاء التعاون العسكري مع فرنسا.


أسباب السخط الشعبي


يرتبط هذا الغضب الشعبي بسببين رئيسيين. أولاً، يرى غالبية التشاديين أن نظام عائلة ديبي، الذي استمر لعقود، ما كان ليصمد لولا الدعم الفرنسي العسكري والسياسي. وقد تدخلت القوات الجوية الفرنسية مراراً لقصف المتمردين الذين حاولوا الإطاحة بالنظام، مما جعل فرنسا بالنسبة للكثيرين شريكاً في قمع إرادة الشعب. ولم تقتصر الانتقادات على هذا فقط، بل تعزز الغضب حينما نصبت فرنسا محمد إدريس ديبي خلفاً لوالده، ضاربة بعرض الحائط مواد الدستور التي تمنع ذلك.


أما السبب الثاني، فهو مرتبط بما وصفه الشعب التشادي بمعاملة القواعد العسكرية الفرنسية وكأنها قوات احتلال. ففي مظاهرات استهدفت القواعد الفرنسية في مدن مثل أبشا، فتحت القوات الفرنسية النار على المتظاهرين، وسقط قتلى دون أي محاسبة تُذكر. هذا الأمر عزز القناعة لدى العديد من التشاديين بأن فرنسا لا تزال تتعامل مع بلادهم كامتداد استعماري.


ومع تولي محمد إدريس ديبي الحكم، تصاعدت وتيرة المظاهرات المناهضة للوجود الفرنسي. ففي مايو 2022، شهدت البلاد مظاهرات واسعة قادتها أحزاب المعارضة وجمعيات مدنية، حيث حُطمت محطات شركة “توتال” الفرنسية، واستمرت الاحتجاجات لأيام عدة، واعتُقل خلالها العشرات من النشطاء. وفي سبتمبر 2023، نظم تحالف “وقت تما” مظاهرات أخرى تطالب بطرد القوات الفرنسية، وإنهاء العمل بعملة الفرنك الأفريقي، ومحاربة الثقافة الفرنسية.


ورغم القمع الحكومي الذي واجه تلك الاحتجاجات واعتقال قيادات المعارضة، من قبل الحكومة التي أظهرت رفضا لهذا المطالب، مع ذلك بدأ النظام التشادي في استشعار أهمية تنويع شراكاته الدولية. ففي مطلع العام الجاري، كثّف ديبي زياراته إلى موسكو، معبراً عن رغبته في تعزيز التعاون مع روسيا، وهو ما أثار استياء فرنسا التي تعتبر النفوذ الروسي تهديداً لمصالحها في الساحل.


فردت فرنسا على هذا “التقارب الروسي” بفتح تحقيق قضائي في يوليو الماضي ضد محمد إدريس ديبي، يشمل اتهامات بإساءة استخدام الأموال العامة والتحقيق في الأصول العقارية لعائلته في فرنسا. رأى العديد من المراقبين أن هذا التحقيق بمثابة رسالة فرنسية مباشرة لديبي للتراجع عن توجهاته، وإلا ستستخدم باريس القضاء كأداة للضغط السياسي.


في خضم هذه الأحداث المتسارعة، وجدت تشاد، الحليف التقليدي لفرنسا، نفسها في مواجهة تحديات أمنية متصاعدة، خاصة مع استمرار تمرد الجماعات الجهادية الذي استنزف البلاد لأكثر من عقد. ففي أكتوبر الماضي، تعرضت قاعدة عسكرية تشادية لهجوم عنيف نفذته جماعة بوكو حرام الإرهابية، أسفر عن مقتل نحو 40 جنديًا، في حادثة وُصفت بالوقحة. في الوقت ذاته، تصاعدت الأصوات داخل تشاد مُنتقدةً فعالية التعاون العسكري مع فرنسا، الذي فشل، برأي البعض، في تحقيق نتائج ملموسة على صعيد محاربة الإرهاب واستعادة الاستقرار. الانتقادات امتدت لتشمل الدعم العسكري الأمريكي، مما عزز الشكوك حول جدوى هذه الشراكات الأمنية التقليدية في مواجهة الجماعات الجهادية التي تواصل تهديد أمن البلاد والإقليم.


في هذا السياق المتوتر، جاء قرار تشاد بإلغاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا كخطوة محسوبة تهدف إلى تقليم النفوذ الفرنسي داخلياً، ومنع تطور التحقيقات القضائية إلى ضغوط سياسية قد تصل إلى حد دعم انقلاب عسكري ضد السلطة. كما أن هذا القرار يهدف إلى امتصاص الغضب الشعبي، وسحب البساط من تحت المعارضة التي كانت تستخدم “طرد القواعد الفرنسية” كورقة ضغط قوية.


ثانيًا: في بيان رسمي متلفز دام قرابة عشر دقائق، أعلن الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي، في الثاني من ديسمبر، مبررات إلغاء الاتفاقية العسكرية مع فرنسا، واصفًا القرار بأنه “نتاج تفكير عميق وتقييم دقيق”. وأوضح ديبي أن الاتفاقية، التي وُقعت في حقبة مختلفة ومع سياقات سياسية وأمنية متباينة، “قد عفا عليها الزمن ولم تعد تتماشى مع احتياجات تشاد الأمنية أو الجيوسياسية”.

 

وفي كلمته، قال ديبي: “تم توقيع هذه الاتفاقية في عصر مختلف، مع جهات فاعلة متميزة على الجانبين وفي سياق مختلف تمامًا. ومع مرور الوقت، أصبحت الاتفاقية قديمة وغير قادرة على تلبية تطلعاتنا الوطنية”. وأكد أن القرار لم يُتخذ باستخفاف، بل جاء استجابةً “لالتزام تم التعهد به تجاه الشعب التشادي”.


ما لفقت انتباهي في بيان الرئيس التشادي ثلاث نقاط رئيسية، تحمل بين طياتها معانٍ دقيقة في العلاقات مع فرنسا:


النقطة الأولى: أشار الرئيس التشادي إلى أن الإلغاء يشمل فقط الاتفاقية العسكرية مع فرنسا “في شكلها الحالي”. وهذا التصريح يُبقي الباب مفتوحًا أمام احتمالية إبرام اتفاقية جديدة بشروط مختلفة، تراعي المتغيرات الراهنة، خاصةً تلك المتعلقة بتقليص الحضور العسكري الفرنسي في البلاد. قد تتجه الاتفاقية المستقبلية إلى إنشاء محمية عسكرية أوروبية صغيرة تضم عددًا محدودًا من الضباط الفرنسيين، لحماية المصالح الفرنسية والأوروبية في منطقة الساحل. ويتسق هذا الطرح مع الاستراتيجية العسكرية الفرنسية الجديدة التي صاغتها وزارة الدفاع الفرنسية بعد طرد قواتها من النيجر ومالي وبوركينا فاسو، والتي تتلخص في “حضور أقل ومزيد من التعاون”. وكما لخص المبعوث الرئيس الفرنسي الخاص إلى إفريقيا، جان ماري بوكيل، فإن تقليص الحضور البارز للجيش الفرنسي قد يكون حلاً لمعالجة موجة معاداة فرنسا في إفريقيا.


النقطة الثانية: شدد ديبي على أن بلاده ألغت الاتفاقية الدفاعية بهدف “إعادة بناء العلاقات مع فرنسا ضمن إطار جديد يخدم مصالح البلدين”. وهذا التصريح يؤكد أن تشاد لا تسعى لقطع شراكتها المميزة مع فرنسا، بل تعيد توجيه هذه العلاقة نحو شراكة أكثر توازنًا. وعليه، ستستمر تشاد في شراء المعدات العسكرية الفرنسية، وهو ما يشكل 7.1% من ميزانيتها العمومية، النسبة الأعلى في غرب ووسط إفريقيا. كذلك، سيظل التدريب الفرنسي للقوات التشادية قائمًا، مع الإبقاء على الامتيازات الاقتصادية والثقافية التي تمتاز بها فرنسا في البلاد. هذه الاستراتيجية تتباين بوضوح مع قطيعة جيرانها – مالي، بوركينا فاسو، والنيجر – الذين انتهجوا مواقف أكثر جذرية تجاه باريس. وأكد ديبي ذلك بقوله: “هذا القرار لا يعني بأي شكل من الأشكال إنهاء شراكتنا الدبلوماسية المميزة مع فرنسا”.


النقطة الثالثة: اختتم الرئيس التشادي بيانه بتأكيد استقلالية بلاده عن منطق تبديل النفوذ بين القوى الدولية. قال بوضوح: “تشاد لم تُلغ هذه الاتفاقية لاستبدال قوة دولية بأخرى، بل لإيمانها بقدرتها على حماية مصالحها وشعبها”. ويأتي هذا التصريح كتطمين لفرنسا والقوى الأوروبية، في مواجهة التكهنات بأن روسيا أو قوى أخرى قد تحل محل النفوذ الفرنسي، وفي هذا إجابة لبعض المراقبين الذين يزعمون أن روسيا هو البديل المباشر، طبعا هذا القرار يسعدها لكن لا تستفيد منها مباشرةً بالضرورة.


في المجمل، البيان يعكس مسارًا تشاديًا حذرًا ومتزنًا، يعيد صياغة العلاقات مع فرنسا بما يتلاءم مع المتغيرات الإقليمية والدولية، دون الانزلاق إلى قطيعة تامة قد تعرّض البلاد لمزيد من التوترات أو الضغوط الخارجية.


وفي ختام المطاف، يمكننا القول إن القرار التشادي بإلغاء الاتفاقية العسكرية مع فرنسا لا يمكن اعتباره محاكاة صريحة لتوجهات دول كونفدرالية الساحل الثلاثة، بقدر ما يعكس قراءة للتوقيت الذي كان مواتيًا للطرف التشادي لاتخاذ خطوة جريئة تستند إلى استثمار المناخ السياسي الراهن، مع اللعب بذكاء على وتر السيادة الوطنية، وتقديم استجابة جزئية للمطالب الشعبية المحلية والإقليمية.


غير أن الجانب المطمئن في هذا القرار هو أنه يمنح دول الساحل الأخرى طمأنينة بأن انسحاب القوات الفرنسية من تشاد يبدد مخاوف استغلال الأراضي التشادية كمنصة لزعزعة استقرار تلك الدول الجارة والشقيقة.


لكن في الختام، والأوضح أن هذا القرار – في رأيي- محاولة من النظام التشادي لإعادة صياغة تحالفاته بعيداً عن النفوذ الفرنسي المتآكل في المنطقة. كما يمثل القرار فرصة للحكومة لتهدئة الداخل، حيث لم تعد المظاهرات المناهضة لفرنسا تمتلك نفس الزخم، بعد أن تحقق أبرز مطالبها بطرد القواعد الفرنسية. ومع ذلك، يبقى السؤال مفتوحاً: هل هذا القرار هو بداية قطيعة فعلية مع باريس، أم أنه مجرد إعادة ترتيب للسطح دون تغيير جذري في العمق؟ وهذا السؤال هو الذي سنجيب عليه في المقال اللاحق.



شارك

مقالات ذات صلة