سياسة
الدماء والدمار، ألف باء الحروب أينما حلت، فأي ندوب تترك خلفها؟ وأين تصيب؟ وأين تخفق؟ كثيرة هي الأسئلة وشائكة، لاسيما أن غيوم الحرب تتلبد فوق المنطقة مجددا، وقد أبت أن تنقشع في سماء لبنان إلا بعدما أمطرته بأطنان من الصواريخ والقذائف طوال الشهرين الماضيين، فشهدت البلاد واحدة من أشرس وأعنف حروب إسرائيل على أرضها.
لكن وما إن انتفضت القرى والمدن الجريحة من بين الركام على وقع اتفاق لوقف إطلاق النار حتى غرقت البلاد في جدال شكل النصر وعما يمكن اعتباره انتصارا أم وهما؟
الفجر الذي بزغ على العائدين المتزاحمين في الطرقات، أوحى بما لهجت به الألسن، فالفطرة الإنسانية عادة ما تعاند صانعي المعادلات وأرباب التحليلات، ووحدها الشعوب تأخذ قرارها بالانتصار عندما تثور بصدق وعفوية وتعبر بإصرار عن إرادة البقاء والصمود مهما حدث.
الجنوبيون عبروا بمجملهم عن قناعاتهم وعما رأوا فيه جولة من جولات القتال مع الاحتلال الإسرائيلي انتهى بصمودهم، وهذا الصمود صنع لهم نصرا جديدا، والانتصار هنا شعور إنساني وحميمي جدا لا يمكن لأحد سلبه من أهل الأرض وأصحاب البيوت والحقول، حتى وإن عادوا إلى تلال ركامها ودمارها.
لكن في لبنان وكما في كل حرب، تتقاطع وتتشابك حبال النصر والهزيمة عند مفترق الطوائف والأحزاب والجماعات المتناحرة التي يكتظ بها البلد الصغير والمرهق بفعل لعنة الجغرافيا وتماسه الدائم مع عدو يقبض على أنفاس جارته فلسطين، وحيث انهمكت فيه فئات مختلفة فكريا وثقافيا وعقائديا في فحص جينات هذا النصر واختبار ماهيته ورفضه كاستحقاق يتأرجح في ميزان الربح والخسارة.
في الوقائع تتصدر المشهد جملة من التساؤلات المتعلقة بمعطيات أفرزها الميدان والأروقة السياسية معا، هل أسقطت أهداف إسرائيل؟ هل نجحت المقاومة في صد عاصفة اللهب؟ هل نزل نتنياهو عن سلم أهدافه وأولوياته التي وضعها بداية الحرب؟
لا شك أن حزب الله في لبنان تعرض لنكسة كبيرة بدأت مع اختراق أمني مميت تمثل بتفجير أجهزة البيجر واللاسلكي وإخراج نحو أربعة آلاف عنصر عن الخدمة ومن ثم سلسلة اغتيالات في هرمه القيادي بلغت ذروتها مع أمينه العام حسن نصر الله وما يمثله الرجل من قيمة وطنية كبيرة ورمز أسطوري لدى حزبه وأنصاره. أجمع كثيرون ومعهم إسرائيل على أن حزب الله سقط بالضربة القاضية وانتهى، وأن ما تعرض له من شأنه أن يسقط جيوشا ودولا ويصدع بنيانها ويهدم هيكليتها ويحدث إرباكا واضطرابا لا قدرة على احتوائه وأن ما سمي بزلزال نصر الله في بيروت شل قدرة المقاتلين في الجنوب.
أكثر من ذلك تؤكد تقارير أن منصات صاروخية ومواقع عسكرية ومنظومات دفاع جوي تعرضت للتدمير الجزئي والكلي منذ اليوم الأول الذي شنت فيه إسرائيل بشكل متسارع نحو ألف ومئتي غارة على جنوب لبنان خلال ساعات فقط. هذا بالإضافة إلى خصوم الحزب في الداخل وجوقة المستنفرين على الشاشات ومواقع التواصل والتي قامت بشن هجمة إعلامية ضخمة بالتزامن مع العدوان الجوي والبري، دون إغفال التفوق التكنولوجي للعدو وهيمنته على داتا الاتصالات والمعلومات والدعم الأمريكي والغربي اللامحدود وتسخير كل ما يحتاجه من إمكانيات مرعبة ومخيفة لم تقتصر على تقنيات التجسس والتتبع والذكاء الاصطناعي.
خرج نتنياهو واثقا يحمل جعبة متخمة بكل هذا، ينتشي بانتصارات الأيام الأولى على حزب الله ويطلق العنان لحرب شعواء ترافقها قائمة أهداف مباشرة وواضحة، تبدأ بسحق الحزب وتدمير ترسانته العسكرية ونزع سلاحه مرورا باحتلال منطقة جنوب الليطاني وإقامة منطقة عازلة وحزام أمني يعيد سكان الشمال إلى المستوطنات، ورسم خارطة جديدة للشرق الأوسط تقلب الموازين والمعادلات القائمة لصالح إسرئيل.
فماذا كان؟ الإجابة ظهرت عندما لملمت المقاومة جراحها واستعادت زمام المبادرة بسرعة كبيرة، وقامت بتوجيه ضربات صاروخية في العمق الإسرائيلي وأطلقت المسيرات ودكت حشود العدو وآلياته ودباباته، وبرهنت بسلاسة وسرعة عن استعادة فورية لمنظومة القيادة والسيطرة، وصد محاولات التوغل البري تحت وابل القذائف والغارات الجوية والحصار الجوي والبحري، حيث شهدت بلدات حدودية كالخيام معارك طاحنة كبدت الجيش الإسرائيلي خسائر كبيرة في صفوفه وهو ما وصف على لسان خبراء وعسكريين بمعارك المقاومة غير المسبوقة على أرض الجنوب، كما أعلنت الأخيرة في بياناتها العسكرية تدمير أكثر من خمسين دبابة ميركافا خلال شهر ونصف من المعارك البرية، واستمرت معركة التصدي بالتوازي مع المسيرات والصليات الصاروخية التي أمطرت مدنا ومستوطنات عدة في الشمال لتكشف عن أضرار فادحة لحقت بمستوطنات المطلة وكريات شمونة وغيرها إلى جانب تلك التي أصابت مناطق واسعة في صفد وحيفا وصولا إلى تل أبيب التي شهدت انهمار نحو ثلاثمئة صاروخ في مناطق مختلفة خلال يوم واحد قبل أن تضع الحرب أوزارها بساعات قليلة فقط، ما أطاح بادعاءات نتنياهو بالقضاء على ثمانين بالمئة من قدرات الحزب الصاروخية وخفض الكثير من سقف توقعاته.
نجحت إسرائيل بارتكاب الجرائم وتدمير البيوت وضرب الأهداف المدنية وضرب حزب الله أمنيا وقياديا، لكن اتفاقا رعاه المبعوث الأمريكي إلى لبنان عاموس هوكستين نضج فجأة وخلال ساعات قليلة ليسحب من تحت نتنياهو بساط أهداف عالية السقف أوهم بها نفسه وجنرالاته. اتفاق اقتصر بعد حرب طاحنة على انسحاب الحزب إلى منطقة جنوب الليطاني وهو بند لا قيمة عسكرية له فالحزب لا يملك ثكنات ومقار هناك ومقاتليه من أبناء الشعب ولا يمكن إبعاد الشعب، أما باقي البنود فتقضي بنشر تعزيزات من الجيش اللبناني وفك الجبهة مع غزة بعد أن قدم الحزب لها ما استطاع إليه سبيلا وتطبيق مدرجات القرار الدولي 1701 الذي أبرم عقب حرب عام 2006.
على مرمى الحروب ثمة من يرفع راية النصر معززا بالصمود وإرادة الحياة وثمة من يتشبث بما يرى فيه وقائع هزيمة تنافي وهم الانتصار، لكن الثابت أن طوفان البشر العائدين إلى أرضهم جرف الكثير من أوهام قادة الاحتلال وأغرقهم في مراكب تقاذف التهم والمسؤوليات، والإقرار بتلاشي وعودهم الواهية لمستوطنيهم بالعودة وصورة نصر مدوية عجزوا عن انتزاعها بفعل بسالة المقاومين الذين رسموا بصبرهم ودمائهم عنوانا جديدا لمرحلة مختلفة سيعيدون فيها ترميم منظومتهم ومعالجة ندوبهم مؤكدين أنهم ثابتون قادرون وهم أهل الأرض وأهل الميدان ولا مكان للمحتل لا حقيقة ولا وهما، ولسان حالهم عدنا ولم يعودوا، واحتفظنا ببقعة أرض وكرامة نقدسها ودامت الانتصارات في ديارنا عامرة.