مدونات

قصيدة “الشهيد”.. من روائع التراث الفلسطيني، عمرها أكثر من مئة عام!

ديسمبر 3, 2024

قصيدة “الشهيد”.. من روائع التراث الفلسطيني، عمرها أكثر من مئة عام!

ولد في العام ١٩١٣ من بداية القرن المنصرم، في إحدى قرى مدينة طولكرم “عنبتا”، شاعر ثائر بالفطرة، ترعرع وتربى في بيت كريم وأنفاس فلسطين تسري في قلبه وعقله، اشتعلت نار الأشواق والحنين في وجدانه غيرةً وخوفاً على ثرى وطنه من الدخيل الغريب القادم من وراء التاريخ، لم يتوان الشاعر الشهيد عبدالرحيم محمود من أن يقاوم بقلمه وسلاحه، فطوع الشعر ليرسم صورة صادقة ومعبرة، عن حب غمر فؤاده وألهب مشاعره وأفكاره، فنظم قصيدة مهيبة جسدت معاناته من وحي حزنه الشديد على ضياع وطنه فلسطين وطن أجداده ومرتع صباه، يثنى فيها على بذل الغالي والنفيس لأجل حرية وطنه، فكانت قصيدة الشهيد من أشهر قصائده وقد عرف بها.

 

نظمها بتسعة عشرة بيتاً يصف فيها زهده في حياته، نظير انعتاق وطنه من براثن العدو الغاشم، ففي مقدمة القصيدة يطالعنا البيت وهو الأكثر شهرة بين أبيات قصيدته:

سَأَحمِلُ روحي عَلى راحَتي

وَأَلقي بِها في مَهاوي الرَّدى

 

يتلمس القاريء في البيت تهاون الشاعر بحياته، فيصور ذلك بأقوى عبارة وكأن روحه شيء محسوس يضعه على كفه ويلقى بها في أتون المعركة، لأن ثمن تحرير الوطن أغلى من الروح ذاتها.

 

أما في البيت الثالث يجمل شاعرنا الغايتين اللتين يرنو إليهما المرء الذي فقد وطنه، فإما الموت أو الانتصار ودحر الظالم المتجبر وتحرير ثرى الوطن الغالي فيقول:

وَنَفسُ الشَريفِ لَها غايَتانِ

وُرودُ المَنايا وَنَيلُ المُنى

 

وهنا في البيت الذي يليه يستنكر الشاعر أن يعيش عيشة الأذلاء ووطنه بيد المغتصب الطاريء، فحياته لا معنى ولا قيمة لها، إذا لم يعش عيشة مفعمة بالكرامة والرضا وعزة النفس على أرض أسلافه عندما يقول:

وَما العَيشُ لا عِشتَ إِن لَم أَكُن

فَخَوفَ الجِنابِ حَرامَ الحِمى

 

ونعرج على البيت التالي والذي يتصاعد فيه حدس الشاعر بدنو منيته، فكأنه يستشرف مصرعه، ويراه رأي العين ببيت قوي أضاف تماسكاً فريداً من نوعه على القصيدة حيث يقول:

أَرى مَصرعي دونَ حَقّي السَليب

وَدونَ بِلادي هُوَ المُبتَغى

 

نلاحظ في البيت السادس أن لغة القسم قد هيمنت عليه، فالشاعر يؤمن أن من أراد أن يموت ميتة إباء وعزة ترفعه بين الناس وتعلي ذكره بينهم، عليه أن يموت في سبيل كرامة وطنه، و لكي يبين أهمية فداء الوطن بالروح استهل البيت الشعري بالقسم وهنا يقول:

لَعُمرُكَ هذا مَماتُ الرِجالِ

وَمَن رامَ مَوتاً شَريفاً فَذا


الشجاعة والإقدام تتجليان في شخصية الشاعر، والذي يبارك الموت بكل بسالة في المعركة، فيخوض بكل جرأة وجسارة خطوط العدو بقلب لا يهاب الموت و عززها بأبلغ عبارة حينما قال “بقلبي سأرمي” أي سيقذف قلبه الذي يمتليء غيضا ً وقهراً على وجه العدو الكالح، ونار تضطرم في صدره تحرق العدو الغاصب، ويعبر عن ذلك أفضل تعبير مردفاً:

بِقَلبي سَأَرمي وُجوهَ العُداة

وَقَلبي حَديدٌ وَناري لَظى


يرى الشاعر في البيت الثاني عشر أن تراب الوطن من أطهر التراب وأنقاه، فيهون عليه أن يمرغ جبينه بترابه، فيزيده بهاءاً و طهراً فيقول:

وَعَفَّرَ مِنهُ بَهِيَّ الجَبينِ

وَلكِن عَفاراً يَزيدُ البَها


الاستهانة بالدنيا وملذاتها قمة السعادة لدى الشاعر، لذا يسخر من الحياة بما فيها من متاع وشهوات، ويقابل ذلك بابتسامة، فهي رخيصة لأجل أن يحيا بعزة وكرامة يستلهمهما من عزة وكرامة وطنه:

وَبانَ عَلى شَفَتَيهِ اِبتِسام

مَعانيهِ هُزءٌ بِهذي الدُن

 

فالشاعر عبدالرحيم محمود وهو من أسرة عريقة في قريته، لم تمنعه رفاهية الحياة التي عاشها، والنعيم الذي تقلب فيه أن ينضوي تحت راية الدفاع عن وطنه والذود عنه، وقتما هجم الغرباء وانتزعوا الوطن من أهله، فيؤكد في أكثر من موضع في قصيدته على مراده الكبير أن ينال الشهادة، والموت عنده مجرد محطة وستنتهي فالخلود الحقيقي هو الخلود في الحياة الأخرى أي ما بعد الموت،، فيعاضده البيت التالي، برؤيا أفرحت قلبه مفعمة بالأمل بأنه سينال الشهادة، وما بعدها هو السرور والخلود وهو أسمى ما يحلم به، ويتجدد هنا حدس الشاعر بقرب أجله، وكأنه ينعى نفسه لنفسه حين يضيف قائلاً:

وَناَم لِيَحلمَ حُلمَ الخُلودِ

وَيَهنَأَ فيهِ بِأَحلى الرُؤى


لم يعد يحتمل شاعرنا تجاوز العدو الظالم وتماديه بعد أن سلب وطنه وحياته، فيوضح ذلك بأسلوب استفهامي الغرض منه التعجب، فكيف له أن يصبر وهو يشاهد الحقد والكره اللذان يجولان في صدر العدو، ويسوم الوطن وأهله الذل والهوان لينبري قائلاً:

فَكَيفَ اِصطِباري لِكَيدِ الحُقودِ

وَكَيفَ اِحتِمالي لِسومِ الأَذى


وفي هذا البيت يفخر الشاعر ويتباهى بأنه أبي عزيز النفس، لا يرضى الخنوع والاستسلام لعدوه، فهو يرفض عيش الأذلاء وترخص الحياة عنده ويسمو في عينيه معنى الموت:

أَخَوفاً وَعِندي تَهونُ الحَياةُ

وَذُلّاً وَإِنّي لَرَبُّ الإِبا


يختم الشاعر قصيدته الثرية بمشاعره الجياشة، والتي تفيض حباً وعشقاً وهياماً بوطنه، هنا يستشعر القاريء روح الفخر والاعتزاز بالنفس التي سادت البيت الأخير، فيظهر أن الشاعر كمقاتل مقبل غير مدبر في ساحة الوغى، يمتشق سلاحه مدافعاً عن تراب وطنه ويتباهى بذلك، فيصل صيته لقومه فيعتدون به ويرفعون رؤوسهم عالية فخراً به، وقت قال:

وَأَحمي حِياضي بِحَدِّ الحُسامِ

فَيَعلَمُ قَومي بِأَنّي الفَتى

 

قصيدة الشاعر عبدالرحيم محمود أجبرت المطلع عليها بصورة لا إرادية أن يأخذ جولة في أحاسيسه ووجدانه العامر بالولاء والفداء للوطن والتغزل في الدفاع عنه وبالشهادة في سبيله، فهي درب الأحرار الشرفاء، فلا غرو أنها سميت “الشهيد”، حيث نظمها قبل شهادته بتسع سنوات، ففصول شهادته تراءت أمامه فسجلها بأشهر قصائده والتي بين أيدينا، فصدق نيته فصدقه الله ونال الشهادة التي تغنى بها وأعلى من شأنها في معظم أبيات قصيدته، استشهد وهو يجاهد العدو في قرية الشجرة قرب مدينة الناصرة، وينسب اسم المعركة لذات القرية، فتقبله الله شهيداً مات مدافعاً عن وطنه.



شارك

مقالات ذات صلة