مدونات
الكاتب: محمد الميموني
في عالم يتسابق فيه المُتلاعبون الكبار على رأس السياسة الدولية، إلى تقديم فروض الطاعة للكيان المحتل، لم يكن أشد المتشائمين من المشروع الصهيوني، يتوقع أن يأتي يوم تحاصَر فيه دُوَيلَة الكيان المؤقتة، وتختنق وسط البيئة التي صنعتها.
لقد باتت الجنسية الإسرائيلية وصمة عار وخزي على جبين حامها، فكلما غرق “النَّتِن ياهو” في نرجسيته السياسية وحاول الهروب للأمام، ضاقت عليه الدنيا رغم رحابتها وسعتها، ولم يطمئن إلى السلامة والأمان، كأنما يفر من قدره المحتوم ليجد نفسه واقعا في شراكه، يعيش بترقب يلتفت يمنة ويسرة، والخوف من الزوال يأكل قلبه.
لطالما استظلت “إسرائيل” تحت مظلة دولية تحميها، تتجسد في نظام معقد ومترابط من اللوبيات اليهودية والصهيونية. أبرزها “الأيباك”، الذي ينشط بقوة في الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى جماعات ومنظمات تتقاطع معه في نفس العقيدة الأيديولوجية، مثل “الهاداساه” و “المنظمة الصهيونية لأمريكا” إلخ. ويعمل هذا النظام المترابط بشكل ممنهج للتأثير على الرأي العام العالمي، عن طريق الاستثمار في المشاريع الاجتماعية، المتمثلة في بناء مدارس، وإنشاء مستشفيات، وتنفيذ أعمال خيرية، وإنتاج أفلام تُروج للسردية الصهيونية، وتمويل رحلات شعبي ورسمية إلى “إسرائيل”.
كل هذه الجهود أفرزت دمعا غير مشروط من القوى الامبريالية الكبرى، التي تَلاقَحت نزعتها الاستعمارية مع الفكر الصهيوني. لكن “طوفان الأقصى” قلب الموازين، وألقى بمعادلة جديدة كشفت زيف هذا الكيان وجعلته عبئا ثقيلا على العالم، فلم تعد المصطلحات التي استثمرت فيها ” إسرائيل” إعلاميا، وصنعت حولها سرديتها المزيفة، تنطلي على أحد، لا سيما الرقصة المملة المسماة “معاداة السامية”، والكذبة المتمثلة في أن الكيان يخوض حربا على جبهات متعددة دفاعا عن “الانسان والإنسانية”.
اليوم، نرى العالم ينكمش شيئا فشيئا على الكيان المحتل، وهذا يعد انتصارا لرؤية الشهيد يحيى السنوار ومن ساعده في هندسة طوفان الأقصى، حيث قال بعد معركة سيف القدس: “خلال شهور قليلة في تقديري أنها لن تزيد على العام، سنجعل الاحتلال أمام خيارين، إما أن نرغمه بتطبيق القانون الدولي، واحترام القرارات الدولية، أو أن نجعل هذا الاحتلال في حالة تناقض وتصادم مع الإرادة الدولية كلها، ونعزله عزلا عنيفا شديدا، وننهي حالة اندماجه في المنطقة وفي العالم كله”. وها نحن اليوم نرى كلماته رأي العين، فالكيان صار منبوذا سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي، وأصبح مُرهِقا للمجتمع الدولي، حتى في البلدان التي كانت تمثل حاضنة آمنة للإسرائيليين، باتت اليوم بيئة طاردة لهم، وصار عُمر الدُّوَيلة المزعومة رهينة لدى المهالك والمآثم وعُقدة الوجود.
إن قرار محكمة الجنايات الدولية بملاحقة “النتن ياهو” ووزيره السابق “غالانت”، يُفاقم المأزق الإسرائيلي في الحرب العبثية التي يشنها على غزة ولبنان. وهو تحول تاريخي في مسار العدالة الدولية، لأنه يعتبر أول اختراق للجدار المنيع الذي لطالما حصَّن القيادات الصهيونية وحماها من المُساءلة، وضربة قوية كسرت سردية “المظلومية” الوحيدة التي لا تقبل أن يُزاحِمها أحد مهما بلغت مظلوميته. لقد قرأت فيما نُسب إلى نجيب الحداد قوله: “من غريب طبائع الانسان أنه يحب العدالة مظلوما ويكرهها ظالما، ويطلب الحرية مرؤوسا ويكرهها رئيسا”.
وهذا ما نراه في توحش الكيان المحتل وشركاءه الاستراتيجيين، فقد قبلوا سابقا قرارات محكمة الجنايات الدولية تجاه “عمر البشير” و “بوتين” وأثنوا عليها، ولكن بعضهم سارع إلى رفض القرار الذي أصدرته نفس المحكمة تجاه القيادات الإسرائيلية. إن الطوفان الغزاوي ألجأ دُويلة الكيان إلى واقع مرير، وحاصرها بنيران القلق الوجودي، وأعاد إلى ذهنها عُقدة الثمانين عاما، وضيَّق عليها مجال المفهوم الأمني، الذي يتمتع بحساسية كبيرة داخل المجتمع الإسرائيلي، ويُعتبر عاملا أساسيا لوجودهم. وبالتالي فإن البيئة الأمنية صارت مهددة بالتقويض أكثر وأكثر.
لطالما خاطب “النَّتن ياهو” شركاءه الغربيين بالخطاب الحضاري، حيث قال في إحدى لقاءاته مع أحد زعماء الغرب، ما مفاده أننا لسنا إزاء صدام الحضارات، بل صدام “الحضارة” مع البربرية، فاختزل الحضارة في “إسرائيل” والغرب، وهذا يعني أن الفلسفة الصهيونية ترفض التعددية الحضارية، وتعتبر الغرب بيئة آمنة لإسرائيل. وعندما يخاطب مجتمعه الداخلي، يبرز مصطلح “الأغيار”، والذي يُقصد به كل من لا يؤمن بالديانة اليهودية. مما يجعلنا أمام دُويلة إقصائية تمارس نفاقا متعدد الأبعاد، يتمثل في ثلاث دوائر رئيسية: (هوية حضارية، هوية صهيونية، هوية يهودية).
ورغم كل هذا الاستثمار الكبير الذي ركز على الاستمالة الحضارية للغرب، والصهيونية لحاملي الفكر الصهيوني في العالم، واليهودية لليهود، نرى أن إحداثيات العالم تُضبَط على مسار جديد، يَضغط على كل مفاصل الدُّويلة الصهيونية، ويحطم أحلام الإنجيليون الذين يحرصون على بقاء الكيان في فلسطين. كلما امتدت الحرب التي تشنها “إسرائيل” على غزة ولبنان، ظهرت ملامح العزلة الدولية وانقشع غبارها، وتزايدت الأصوات العالمية التي تتبنى مواقف تضامنية مع غزة ومقاومتها، وبدأت الشكوك تساور كل من يحمل الجنسية الإسرائيلية حول مسألة الأمن والاستقرار، ما يضع الكيان أمام أزمة غير مسبوقة على الصعيدين الداخلي والخارجي، رسميا وشعبيا. كل هذه التغيرات تحمل دلالات قوية على تزايد المشاعر المناهضة للكيان الصهيوني في الخارج، وأصبحت تمثل نقطة تحول في الوعي الدولي، مما يعمق من أزماتهم الأمنية ويغذي مخاوفهم الوجودية، ويجعلهم أمام شعور دائم بالتهديد.