آراء
هزتني نسمات الليالي، فتراءى ببالي طيف من الذاكرة، عدت شهورا ليست بعيدة إلى الوراء، دققت النظر كأنني أحاول محو ما استجد في العين والعقيدة والإيمان، لأنظر ما كان وراءه، أعود إلى ما قبل عامين من الآن، حين كانت فكرة التصدي للعدو فكرة جنونية، من يقدر على كبح جماح وحش جامح، ومن يستطيع أن يقف ببنيانه المتواضع أمام كبرياء جسم فارع وضيع، ومن يستطيع صد سيف بكفه، ورمح بصدره، ومنع الجزارين في مواسم القرابين من حصاد الرؤوس؟ من يستطيع أن يقول للفرعون لا، لسنا موسى، وليس السحرة معنا، والصندوق الخشبي الذي كان فيه سر التمكين القادم، أكله السوس، والنهر الذي يجري بالأقدار المفاجئة امتزج بكثير من الوحل والقمامة والجثث، حتى طفت الجثامين المتعفنة على سطحه.
لا شيء في الأفق يقول إن واحدًا أو ألفًا أو عشرة ملايين قادرون على قول “لا” علانيةً في وجه جبار واحد، خاصةً أن مضى عصر الفرعون الوحيد، وبات هناك اتحاد رسمي للفراعنة الجدد، يتجمعون، يؤازر بعضهم بعضا، حتى لا يلج دخيلٌ إلى جمعتهم فينقضها حجرا حجرا، وينفرط العِقد الذي اجتمعوا على سرقته، وتعاهدوا على تقاسمه وحمايته، فمضى عَقد من الزمان وهم يلتفون حوله كأنه كعبتهم، كل طاغية يشد عرش أخيه، وكل قدم تنكسر للكرسي يركبّون بدلا منها طرفا صناعيا، المهم ألا يسقط أي ساقط، لأنه لا قاع أحط من المجتمعين فيه، فيخشون أن يهوي في فراغ أبدي، ويلهم ذلك الأيامَ أن تكرر فعلتها مع الآخرين.
ثم ذات صباح، على حين غفلة من الجميع، ظهر موسى، اقتحم الجدران وهد الأسوار وفاجأ السحرة، والمؤمنين أيضا، قام إلى عدوه فوضع يديه على خناقه، وأخذ يرجه حتى تساقط لحمه، وانهار الجند من حوله، وخر البنيان الذي ظنه محميًّا بالكاميرات والتقنيات والأسلاك الشائكة، انطلق الأولاد واخترقوا الحصون، وغيروا الفكرة في كتاب التاريخ، وبدلوا وجها من أوجه الدنيا، ورسموا بفراشهم الحمراء قواعد جديدة، بدلا من تلك التي خر عليها السقف، لا تؤسس في وسط الحلكة للمعان ضوء يعارض المحتل أو ينجح بصد غاراته، وإنما أن تكون أنت المهاجم أصلا، أن تباغت العدو وهو مرتاح إلى دفاعاته، أن تسجل على وجهه صفعةً يقيدها الكون كله، وأن تحز رقبته حزةً لا تزال تنزف حتى يموت.
في السابع من أكتوبر، انطلق نوح بسفينته، وهو ذاته موسى الذي شق البحر نصفين، كانا بحّارة في ثوب قبطان واحد، وفاض الطوفان على جنبيه ليبلغ مشارق الأرض ومغاربها، وعلى متنها كان المؤمنون الأول، والمغِيرُون المغيّرون المغاوير، الذين صنعوا الخشب من بقايا الأشجار، وشيدوا الفلك في الصحاري القاحلة، وبنوا الشراعات في الأنفاق الموحلة، قيل لهم بسخرية: وهل تبحر الشراعات في باطن الأرض؟ رد عليهم الصنّاع: لا نصنعها لتبحر، بل لتطير. ضحك السائلون، وتبسم المجيبون، وظنوا تلك نهاية النكتة.
لم تكن دعابة، ولم يكونوا يمزحون، طارت الشراعات ولم تبحر، بينما التي أبحرت هي السفن من دون شراع، رأى القوم الخبر يطير فوقهم بالسماء، فذهلوا، وأكملوا حفلتهم، ظنوا أنهم أسرفوا في الشراب، لكن الرصاصات جعلتهم يفيقون على وقع اليقين، أجل، في الأنفاق أشياء تعد لتطير، تخيل تلك الحدة المتناقضة بين أداني الأرض وأقاصي السماء، من يجرؤ على تجاوز حاجز الصوت والصورة والعقل بتلك البراعة والجرأة معا؟ ثمة مؤمنون من عصر الأنبياء لم يأكلهم الدود، ناموا كأصحاب الكهف ثم أفاقوا قبل عقود، ليواصلوا المهمة، كأنهم وُلدوا من ظهر زمان قديم، كأن الأرض كانت حبلى بهم من صُلب أعمدة الزمان، ثم حفظوا، ليتجلوا في أفق العهد السقيم، ليصححوا المسار ويقلبوا الكرة والكرَّة، يعدّلون اتجاه الدنيا، يا أيها الناس، تلك تعريفات الاتجاهات، وتلكم أصول الوجهات، وبينهما تكمن القبلة.
انطلقت جموع الفاتحين ليفتحوا أول ما يفتحون ثغرًا في العقول، ليغسلوا فصوص المخ مما تعتّق فيها من تراكمات الخوف والإحجام، فتحوا نوافذ في الأفئدة مكنت الشمس من العبور، يا أيها الناس ثوروا تصحّوا، يا أيها الناس قوموا إلى أعدائكم، فأحكموا القبضات على أعناقهم، لم يولد الباطل ليخلد، ولم يولد الحق ليجلد، ولم تكتب الجولات بقلم واحد، ولا حسب منهج موحد، فبئس القناعة بالدفاع والصد حين البغي، ونعم الذي يمسك بتلابيب المباغتة فيبادر بالهجوم، ليعلم العدو في أول الصدمة أنه ليس من يقرر توقيت المعركة، وليس وحده الذي يملك فوق رسغه ساعة الصفر، وإنما حق المؤمنين ملك ساعاتهم، كيف لا وهم الذين حكموا الدنيا القرونا.
مضت غزة بكلمة الله فاتحةً لما بين يديها، جار العدو عليها وكان سيجور سيجور، لكنه وُضع في مأزق بين سندان الأرض ومطرقة السماء، ووضع رقبته بنفسه على المقصلة، يظن أنه في سعةٍ من إجرامه في غزة، لكنه لا ينظر سوى لأمتار تحت قدميه، ولا يرى الكون كله وهو يضيق عليه، وتثّاقل الجبال فوق صدره، وتربض الرواسخ على رئتيه، فيفعل بغزة هاشم ما يفعل، ولا يدري من غروره أن من نسل هاشم محمدًا، سيلعن وجيش الفاتحين ألف غازٍ وطاغية.
وفي فجرٍ قريب آخر، كان الأولاد يعدون العدة، يستلهمون الفكرة من وحي الطوفان، وإن كانت لديهم طيفا عابرا، أو حلما مستحيلا، أو أمانيّ صعبة، أو مغامرة غير محسوبة، فإن الطوفان جاء ليطمئنهم، وقد رأوا أمامهم موسى يضرب بالعصا، فينفلق كل فرق كالطود العظيم، وتنقصم ظهور الجبابرة على سواعد “السناوير”، وليس ذلك قفزًا على فتوحات الآخرين، وإنما تأصيل لفتح واحد على جبهات متعددة، فليس ذلك المد إلا من امتجاج البحر، وليس ذلك السيل إلا من ذلك الفيضان، وإن الأمواج حين تزحف فإنها لا تصل إلى منتهى، حتى تركب البحر كله وصولا إلى الشاطئ، وتلك مرافئ الفاتحين، فلا يغفلنّ العاقلون أن العصا التي ضربت البحر، هي ذاتها التي قهرت السحرة، وهي ذاتها العصا التي انفجر من ضربتها اثنتا عشرة عينا، فهل علم كل أناس مشربهم؟