مدونات
الكاتب: إبراهيم ماين
لو حاولنا أن نسرد قصة نشوء الذكاء الاصطناعي فلن يستنزف هذا العمل جهدا كبيرا منا، لكن، في المقابل، إذا حاولنا أن نتحدث عن التحولات التي طالت مجالات الحياة الإنسانية نتيجة انتشار استعمال الذكاء الاصطناعي فلن يكفينا في ذلك مقال أو كتاب، هذا لأن هذه التحولات متعددة الأوجه، منها ما هو نفسي و ما هو اجتماعي و ما هو علمي.
ثم إن التوقعات التي وضعت إثر إحداث هذا الذكاء الجديد بتحديد الوظائف التي سيؤديها لم تقف عند حدود التحقق، بل تجاوزت هذه الحدود إلى آفاق أخرى لم تكن متوقعة، و لعل الأفق الجديد الذي أثار الكثير من الجدال هو إمكان مضاهاة الذكاء الاصطناعي للذكاء البشري ، و ليس غريبا عندنا اليوم أن الذكاء الثاني أمسى يستنجد بالذكاء الأول، وهذا إن دل على شيء، فإنه يدل على اقتراب أفول الذكاء البشري، كما يشي بأن مفهوم الإنسان يقتضي تعريفا جديدا غير التعريف الذي ارتبط به في الفلسفة الحديثة و ما قبلها، لأن السمات التي تميزه أضحت غير مقصورة عليه، يتمتع بها الذكاء الاصطناعي أيضا، ومن أبرز هذه السمات نجد الخطابة و البلاغة، باعتبارهما خصيصتي الإنسان الأساسيتين منذ اليونان مع السوسفسطائيين، و حق لنا أن نتساءل هنا: هل يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على الخطابة و البلاغة؟
وقع حدثان مميزان في عام 1956، الأول : قدّم المهندس جون ماكارثيJohn McCarthy لأول مرة مصطلح “الذكاء الاصطناعي” (IA) في مؤتمر عُقد في دارتموث (نيوهامبشير، الولايات المتحدة). الثاني: نشر الفيلسوف غونتر أندرس Günther Anders عمله زوال الإنسان La obsolescencia del hombre ، الذي تضمن مفهوم “العار البروميثي vergüenza prometeica “، الذي يمكن تفسيره على أنه الإهانة التي يشعر بها الإنسان عندما يُواجه بثمرة عمله (الأجهزة التكنولوجية)، عمل يعتبره الإنسان، بطريقة ما، شيئًا يفوقه، ولا يعتبر نفسه حتى خالقه، و لنعتبر هذا الأمر مفارقة معلقة.
قلنا أن البلاغة هي من السمات التي لم تفارق الإنسان لمدة طويلة جدا، هذا إذا افترضنا أن الإنسان كائن لغوي، و أن اللغة التي أبدعها يستطيع أن يتصرف فيها كما يشاء ، لأنه هو الذي صنعها، و لم تكن موجودة قبله قط ، و استطاع بفضل عقله الخلاق أن يزود الآلة باللغة، من هنا نجد أن الذكاء الاصطناعي الذي نستعمله بكثرة يجيبنا باللغة التي نفهمها، أو بالأحرى باللغة التي نتحدث بها معه، بل إنه يمكن الاستعانة به لصياغة جمل و عبارات بطريقة مثالية و سلسة نعجز أحيانا عن صياغتها بأنفسنا، هذا الأمر، يدفعنا كبشر، إلى استشعار عجزنا في إتقان البلاغة ، في حين أن الآلة تتقنها بدون أن تجتهد في سبيل إحقاق ذلك، و نحن إذا أردنا أن نعبر فقط عن حدث من الأحداث نضني أنفسنا و ننهك قريحتنا و نعصر سليقتنا اللغوية بغية صياغة عبارة واحدة معبرة يستطيع الذكاء الاصطناعي توليدها في أجزاء من الثانية، و يساورنا جراء هذا التفوق الملحوظ للآلة شعور غائر في الأعماق بالعار البروميثي بتعبير أندرس.
تكمن قوة البلاغة في توظيفها من أجل الإقناع و إثراء الخطاب، و لا تنحصر فقط في الجانب الاستيطيقي الذي يجعلها مادة للتزيين و الزخرفة اللغوية، ووظيفتها تلك هي التي ساهمت في توسيع رقعة اشتغالها في مجالات متعددة ، كالمجال القضائي و المجال السياسي، و في الإعلانات.
أحد أبرز التطبيقات التي جلبت الذكاء الاصطناعي إلى الجمهور هو ChatGPT من شركةOpen A ، الذي حقق أكبر عدد من التنزيلات في تاريخ التطبيقات خلال أول خمسة أيام من إطلاقه (أكثر من مليون مستخدم)، يكمن نجاحه في قدرته على توليد نصوص مقنعة ومتسقة، بحيث يبدو للمستخدم أنه يتفاعل مع شخص حقيقي وليس آلة، بل إنه يستطيع شرح المفاهيم المعقدة بلغة مفهومة، مما يجعله يحل محل الإيثوس في الخطابة الأرسطية القديمة.
من الواضح أن هذه الإجابات التي تظهر وكأنها تمتلك قدرة بلاغية هي واحدة من العوامل التي تجعل المتلقي مفتونًا، ومن خلال ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي نقل رسالته بثقة ومصداقية. ومع ذلك، قد يشكل هذا النوع من الإقناع خطرًا إذا كانت الإجابة خاطئة، لذا من الضروري توخي الحذر والتحقق من صحة الإجابات.
بغض النظر عن كيفية توليد الذكاء الاصطناعي لبلاغته، من المهم ملاحظة أنه يحقق وظيفة مشابهة للبشر. في جميع الأحوال، يستفيد الذكاء الاصطناعي من امتلاكه قاعدة بيانات ضخمة وخاصة، بالإضافة إلى قدرته على استثمار تلك المعرفة في إجاباتها. باختصار، يمكنه الوصول إلى جزء كبير من المعرفة المتراكمة عبر تاريخ البشرية. لكن السحر في العملية يكمن في أن العديد من تلك النصوص تحتوي بالفعل على بلاغتها الضمنية لأنها تم إنشاؤها بواسطة البشر، يستورد الذكاء الاصطناعي جزءاً من تلك البلاغة الأصلية بشكل غير مباشر، من خلال كميات هائلة من الأنماط الموجودة.
باختصار، يمكن اعتبار ذلك مكافئاً لتوليد “ما وراء البلاغة” كإجابة، فالذكاء الاصطناعي لا يعاني من قيود الذاكرة مقارنة بالبشر، وتدفقه البلاغي التوليدي مذهل. لقد أشار غونتر أندرس أيضًا إلى “الاختلاف البروميثي” باعتباره اللامزامنة التي كانت موجودة بين الإنسان وعالم منتجاته، مما يحدث فجوة بين الفعل والشعور، بين الفعل والتمثيل، أو بين المعرفة والوعي، الشخص الذي يشعر بالخجل كما وصفه أندرس يخضع طواعية للتحويل إلى شيء مادي بل ويعاني من اضطراب في هويته الخاصة. الكائن المعبود لم يعد رفعة للإنسان، بل أصبح تمجيدًا للآلة، سواء كان ذلك للخير أو للشر، قد تكون البلاغة هي الوظيفة التي تساعد في إتمام ذلك التمجيد.