قبل نحو 14 شهراً هز بضع مئات من الرجال أسس كيان الاحتلال ولم يكونوا يعلمون أنهم سيهزون معها موازين القوى في المنطقة والعالم٬ فما لا تزال ارتدادات طوفان الأقصى تفاجئنا كل يوم بمداها وصداها وإلهامها٬ ولا نعلم إلى أين سيصل دفع الله للناس بهذا الطوفان٬ لكن ما نعلمه هو ما وعدنا الله به٬ بأن العاقبة للمتقين٬ وليس للذين يريدون عُلواً في الأرض ولا فساداً.
يقال إن التاريخ دوائر٬ وفي أعماق تاريخ أمتنا٬ كانت تظهر لحظات فارقة في عز لحظات الضعف٬ تقلب الموازين وتردّ الأقدار٬ ولم يكن يعلم مآلاتها إلا الله والراسخون في العِلم. وكذلك هو حال “طوفان الأقصى” المبارك الذي صاغ للأمة والعالم معان جديدة للجرأة والإلهام والشجاعة والتضحية والفداء والبركة من الله عز وجل وحسن التوكل عليه٬ والثبات مع شدة البلاء واستطالته.
في عز لحظات الانطفاء واعتياد الآلام وتتابع الهزائم٬ جاءت عملية “طوفان الأقصى” كصرخة ملتهبة في وجه الظلم، وكجرس استفاقة يُدوي في أعماق النفوس والقلوب والعقول. هذه العملية المباركة لم تكن مجرد انتصار عابر غزا به بضع مئات من الرجال ثكنات العدو ومستوطناته وداسوا بأحذيهم رؤوس الجنود٬ بل كانت زلزالاً مدوياً وتطهيراً لقرن من الهزائم والانكسارات.
المخيال الذي فتحه الطوفان وبثه في النفوس كان أشبه بشعلة أضاءت ظلام اليأس في غرفة صماء٬ كانت تضيق جدرانها على صدور شعوب هذه الأمة منذ وقت طويل٬ لكن المستضعفين يصنعون مجدهم بأيديهم.
(ادخلوا عليهم الباب).. شهد العالم كيف روّض أصحاب اليقين المستحيل بقوة الإرادة٬ فاجتاح الطوفان أوهام الاحتلال، وقلب الطاولة على الجميع٬ وفرض واقعاً لا يمكن فيه إعادة عقارب الساعة إلى الخلف على الإطلاق٬ وها نحن أمام “شرق أوسط جديد”٬ لا الذي وعد به عدونا قبل الطوفان بقليل٬ بل الذي صنعه أبطال العبور ومن بعدهم بالدم والتضحيات.
الأصداء والارتدادات لا تتوقف٬ قد تبدو للبعض بعيدة أو منفصلة في بعض الأحيان، لكنها متقاطعة ومتشابكة، وهو ما يزيدها تعقيداً٬ وهذه سنة الله في خلقه ودفعه للعباد ببعضهم البعض٬ لضمان بقاء الحق وإقامة العدل، وهي جزء من الابتلاءات التي تحف طريق المؤمنين في مسيرتهم نحو إقامة العدل وتحقيق التمكين.. (ولولا دفع الله النَّاسَ بعضَهُم بِبَعضٍ لَفَسدت الأرض).
نحن اليوم أمام لحظة فارقة من التاريخ٬ ربما يقول البعض إنها معقدة وتتسم بعدم اليقين٬ لكنها اليقين كله والله٬ كنور الشمس التي سطعت على جباه العابرين في صباح السابع من أكتوبر٬ وبينما يمتحن الله صبر المؤمنين وقوة يقينهم بوعده، يهيئ الأرض لاستقبال عدله وتمكين عباده الصالحين الذين ثبتوا ولم تزل أقدامهم٬ وهو الذي قال في محكم تنزيله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم٬ في الوقت الذي كانت القلة المؤمنة معه بأمسّ الحاجة إلى العون والتثبيت وهم في طريق الهجرة من مكة إلى المدينة٬ يطاردهم قومهم كما طارد فرعون موسى عليه السلام وقومه: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين).
عرفنا بداية الطوفان العظيم ولا نعلم نهاياته٬ لكننا ندرك أنه الموجة الأولى في بحر التغيير القادم وإن طال البلاء واشتد٬ وأن ملحمته الخالدة ستظل شاهدة على عظم صنيع الإنسان في مواجهة الطغيان مهما كانت كلفته٬ وأن الطوفان سيكون درساً في الجرأة لمن تردد، وإلهاماً لكل من يحمل حلماً في قلبه بالحرية والخلاص.. (وَعَدَ الله الذين آمنوا منكم وعمِلوا الصالحات لَيَستخلفَنَّهم في الأرض كما استَخلَفَ الذينَ مِن قبلهم)٬ وهذا الوعد لا ينقطع، وإن طال الطريق أو تعاظمت التحديات٬ ونسأل الله على ذلك الثبات حتى الممات.