أدب
الفند الزماني، اسمه شهل بن شيبان، ولُقِّب بالفِندِ لضخامته، والفِند هو القطعة من الجبل، والفند هو من بني زِمَّانَ بن مالك الذين هم إحدى قبائل بكر بن وائل، وكان يقيم في اليمامة مع بني عمه بني حنيفة الذين هم أيضا قبيلة من قبائل بكر.
ومن المعلوم أن بني حنيفة اعتزلوا حرب البسوس مع القبائل العربية التي اعتزلت الحرب، فكانت مشاركة بكر في حرب البسوس تكاد تقتصر على بني ذهل بن شيبان الذين كانوا سواد بني بكر الأعظم في حرب البسوس.
وذلك لأن القبائل المعتزِلة من بكر، رأت أن بني عمومتها ظلموا تغلب بقتل جساس كليبا، فاعتزل بنو حنيفة الحرب واعتزلت يشكر، واعتزل أيضا بنو ضُبيعة بن قيس رهط الحارث بن عباد، وكان ممن اعتزلَ، الفند الزمَّاني هذا.
بعد مضي زمن طويل، لم تنته الحرب، وأسرف مهلهل بن ربيعة في القتل، إلى أن قتل بجيرَ بن الحارث بن عباد جاعلا إياه بمنزلة شسع نعل كليب، وقال مفتخرا من أبيات له:
وإني قد تركت بواردات – بجيرا في دم مثلِ العبير
حينئذ أعلن الحارث بن عباد الحرب على تغلب، بعدما كان اعتزل الحرب مع بني عمه بني ضبيعة بن قيس، وحين قرر أن يحارب انضمت له قبائل بكر الأخرى، وكان ممن انضم إليهم سبعون فارسا أرسلتهم بنو حنيفة ومعهم الفِند الزِّمَّاني هذا وله من العمر يومئذ 100 سنة.
وقعت حينئذ بين بكر وتغلب الوقعة المشهورة: “يوم تَحلاق اللِّمم” (اللمم جمع لِمَّة وهي شعر الرأس إذا كثر، وذلك لأن بني بكر يومئذ حلقوا رؤوسهم). وفي ذلك اليوم هزمت تغلب هزيمة نكراء.
الفِندُ الزِّماني صاحبنا، له مقطوعة قالها يومئذ يفتخر فيها ويستعرض فيها مسار مواقفه من حرب البسوس، بدءا بحياده واعتزاله الحرب وصولا لمشاركته فيها التي أرغمها عليها تجبر المهلهل، فيقول في تلك المقطوعة:
صفحنا عن بني ذُهل – وقلنا القوم إخوانُ
عسى الأيام أن يرجعـ – ـن قوما كالذي كانوا
فلما صرح الشر – وأمسى وهو عريان
ولم يبق سوى العُدوان دِناهم كما دانوا
مشينا مِشيَة الليث – غدا والليث غضبانُ
بضرب فيه توهين – وإخضاع وإقرانُ
وطعن كفم الزق – غدا والزق ملآن
وبعضُ الحِلم عند الجهـ – ـلِ للذلة إذعان
وفي الشر نجاة حيـ – ـن لا ينجيك إحسان
قوله هنا “صفحنا عن بني ذهل وقلنا القوم إخوانُ”، لا يقصد أنه عفا عن بني ذهل، فهم بنو عمه ويقاتل إلى صفهم، ويستحيل منطقا أن يقول “عفوت عنهم”، وإنما قصده هنا بصفحنا، أي أعرضنا عن حرب البسوس الدائرة بين بني ذهل وبني عمهم تغلب، “وقلنا القوم إخوان” أي إن بكرا وتغلب إخوة في النهاية، “عسى الأيام أن يرجعن قوما كالذي كانوا”، أي عسى أن تعيد الأيام المودة بين الطرفين.
لكن حين أفرط مهلهل في القتل وتجبر، صار لزاما على قبائل بكر الأخرى أن تتحد مع بني ذهل وتوقفَ المهلهل عند حده، وهذا معنى قوله:
فلما صرح الشر – وأمسى وهو عريان
ولم يبق سوى العُدوانِ دناهم كما دانوا
أي لما أبت تغلب إنهاء الحرب ولم ترض بغير العداوةِ، “لم يبق سوى العُدوانِ، دِنّاهم كما دانوا”. أي جازيناهم كما جازوْا، فدنا في هذا البيت هي من الدِّين الذي هو هنا الجزاء، والجزاء هو معنى من معاني الدين، فتقول دان فلانا يدينه دِينا إذا جازاه بفعله، ومن ذلك قوله تعالى: “مالكِ يومِ الدين” أي مالك يومٍ يُدان فيه العباد أي يجازون بأعمالهم. طبعا للدين عدة معان أخرى، فمن معاني الدين السلطان والحكم من ذلك قوله تعالى: “ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك” أي في سلطانه، ومن معاني الدين أيضا العُبودية، من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: “الكيس من دان نفسه” أي استعبدها وأذلها لله، منه أيضا قول القطامي:
رمت المقاتل من فؤادك بعدما – كانت نوار تدينك الأديانا
أي تستعبدك بحبها، و من معاني الدين أيضا العادة ومنه قول امرئ القيس في رواية لبيته:
كدينك من أم الحويرث قبلها، أي كعادتك، والعرب تقول: مازال هذا دينَه ودأبه وديدنه وديدانه أي عادته. ومن معاني الدين أيضا الملة، تقول نحن على دين إبراهيم أي على ملته.
فمحل الشاهد أن الدين في بيت الفندِ الزِّماني “(ولم يبق سوى العدوانِ دناهم كما دانوا)، هو الجزاء والمكافأة، أي إن بكرا جازت تغلب وانتقمت منها في يوم تحلاق اللمم.
أما قوله في نهاية مقطوعته:
وبعض الحِلم عند الجهـ – ـلِ للذلة إذعان
وفي الشر نجاة حيـ – ـن لا ينجيك إحسان
يقول إن طول إعراضهم عن تغلب أوهم الناس أن بكرا أذلة، فكان لا بد من إنهاء الحِلم الذي هو الأناة والعفو، واعتمادِ الجهل الذي هو الشدة والبأس، وذلك لتأديب تغلب وإيقافها عند حدها، ففي الشر نجاة حين لا ينجيك إحسان، أي إن الشدة والبأس مطلوبان في أوقات لا ينفع فيها اللين والإحسان، فلكل مقام مقال كما يقال، فمن استعمل الحلم والأناة في مقام البأس والشدة فقد أخطأ، وقد أخذ هذا المعنى أحد الشعراء فقال:
لَئِن كُنتُ مُحتاجاً إِلى الحِلمِ إِنَّني — إِلى الجَهلِ في بَعضِ الأَحايِينِ أَحوَجُ
وَما كُنتُ أَرضى الجَهلَ خدناً وَصاحِباً — وَلَكِنَّني أَرضى بِهِ حينَ أُحرَجُ
وَلي فَرَسٌ لِلحِلمِ بِالحِلمِ مُلجَمٌ – وَلي فَرَسٌ لِلجَهلِ بِالجَهلِ مُسرَجُ
فَمَن شاءَ تَقويمي فَإِنّي مُقَوَّمٌ — وَمن شاءَ تَعويجي فَإِنّي مُعَوَّجُ