آراء
في كتاب الصحفي حلمي سلام «أنا وثوار يوليو» تحليل لشخصية الرئيس جمال عبد الناصر، فقد كان حلمي سلام يجيب مَن يسأله: «مَن هو؟»، فكان يجيب هؤلاء الأصدقاء بإجابة واحدة: «إنه رجل وُلِد ليكون زعيمًا». وأحيانًا كان يزيد فيقول لهم: «إنّ فيه من صفات الجمل كل شيء؛ فيه من اسمه.. ورسمه.. وصبره.. وقوة تحمُّله.. وأيضًا قدرته المذهلة على الثأر».
ثم يكمل حلمي سلام وصفه بأنه كان قليل الضحك قليل الكلام، أقرب إلى أن يكون خجولًا. وعندما اشتكى عزيز صدقي إلى عبد الناصر من عبد اللطيف البغدادي، وهدد بالاستقالة، كان ردّ عبد الناصر أنه صبر على قذف صلاح سالم له بدواة الحبر في وجهه في اجتماعات لمجلس الثورة، ثم نبَّهه عبد الناصر إلى وجوب تعلُّم الصبر.
هذه قصص من عدة كتب تقرِّب صورة عبد الناصر، يغلب عليها التقدير والحفاوة، لكن في ثنايا هذه الحكايات تظهر شخصيته المتَّسمة بالصبر والعناد والثأر وحب السلطة.
عبد الناصر وصورة مجلس قيادة الثورة
في الشهور الأولى للثورة أستأذنه حلمي سلام في أن يلتقط صورة لأعضاء مجلس قيادة الثورة مجتمعين لكي يقدِّمها هدية من مجلة «المصور» إلى قرائها. وافقه عبد الناصر على فكرته، والتقطوا الصورة، ولكن ناصر في ليلة الخميس -وهي الليلة السابقة على نزول «المصور» إلى الأسواق- اتصل بحلمي سلام تليفونيًّا ودعاه إلى مقابلته في مجلس الثورة، ودار هذا الحوار:
– إيه أخبار الصورة اياها؟
– طبعناها.. وأصبحت جاهزة للتوزيع.
– لا.. أنا لا أريد أن توزع هذه الصورة.
– هل من حقي أن أعرف السبب؟
– إنه سرّ أأتمنك عليه. إنّ في هذه الصورة اثنين فرضتهما الظروف على مجلس الثورة، وأنا أترقب الوقت المناسب لإخراجهما منه، ولا أحب أن يرانا الناس في هذه الصورة عدة أفراد ثم بعد أيام قليلة يرون أننا قد نقصنا اثنين. إنها علامة ليست طيبة، كما أنها ليست في صالحنا. والذي أريده منك الآن هو أن تعدم هذه الصورة. ولنتفق على أن سبب إعدامها هو أنك لم تأخذ مني إذنًا بنشرها.
أعدم حلمي الصورة. أما الرجلان اللذان قال عبد الناصر إن الظروف قد فرضتهما على مجلس الثورة، وإنه يترقب الوقت المناسب لإخراجهما منه، فكانا البكباشي يوسف صديق، والبكباشي عبد المنعم أمين. والأول ذهب للعلاج في الخارج، والثاني ذهب إلى بروكسل سفيرًا لمصر بها.
موقف عبد الناصر من الأسرة العلوية
تكشف قصة حكاها حلمي سلام عن فهم عبد الناصر لتاريخ الأسرة العلوية ومحمد علي. كان حلمي سلام يجلس في صالون منزله، وكان معه عبد الناصر والبكباشي عبد الرحمن أمين الذي كان وقتها يشغل منصب السكرتير العام للاتحاد الرياضي العسكري، وتنقَّل بهم الحديث في مواضيع شتى، وانتهز عبد الرحمن أمين فرصة توقف الحديث للحظة وباغت عبد الناصر بهذا السؤال:
– مش آن الأوان يا ريس علشان تخلَّصنا من تماثيل أسرة محمد علي اللي مالية الميادين؟
قال عبد الناصر: زي مين يا عبد الرحمن؟
– زي إبراهيم باشا مثلًا.
وما إن سمع عبد الناصر اسم إبراهيم باشا حتى قفزت الدهشة فاحتلَّت مساحة وجهه كله، وراح يهز رأسه الكبير يمينًا ويسارًا، علامة الاستغراب والدهشة، قبل أن يقول: مؤكد يا عبد الرحمن انت عمرك ما قريت تاريخ.
قال عبد الرحمن: ليه يا ريس؟
قال عبد الناصر: لأنك لو كنت قريت تاريخ ماكنتش فكرت أبدًا إنك تطالبني بإزالة تمثال إبراهيم باشا. ازاي يا عبد الرحمن تبقى راجل عسكري وماتعرفش إن كل أمجاد الجيش المصري مرتبطة باسم إبراهيم باشا اللي انت عايزني أهدّ تمثاله؟ وحتى محمد علي نفسه مستحيل إنكار دوره الضخم في بناء مصر الحديثة، رغم المظالم اللي أصابت جموع الشعب على إيديه، وخصوصًا الفلاحين. لكن دي حاجة، ودور الراجل في بناء مصر حاجة تانية خالص.
ثم قال عبد الناصر: على فكرة يا عبد الرحمن، دي آخر حاجة كنت أفكر أسمعها منك.
وغرق الرجل الطيب عبد الرحمن أمين في بحر من العرق، كما يروي لنا حلمي سلام.
ولعل ذلك سبب بقاء تمثال إبراهيم باشا حتى هذه اللحظة يتوسط ميدان الأوبرا في القاهرة، ولماذا بقي تمثال محمد علي حتى هذه اللحظة يتوسط ميدان المنشية بالإسكندرية، على الرغم من قيام ثورة استهدفت أول ما استهدفت إزالة أسرة محمد علي من الوجود المصري. وهذا مفيد لفهم تصور عبد الناصر عن الأسرة العلوية التي قام بثورة ضدها.
قصة عزل السنهوري
يذكر حلمي سلام في كتابه أنه في مارس سنة 1954، وبعد الاعتداء على عبد الرازي السنهوري، واتهام السنهوري لعبد الناصر في التحقيقات أمام النيابة بأنه الذي دبَّر حادث الاعتداء عليه وعلى مجلس الدولة، فردَّ عبد الناصر بعزل السنهوري سياسيًّا بعد أن تحفَّظ قبل ذلك بسبب مساعدة السنهوري للثورة في بداية عهدها. لكن بما أن السنهوري قد اتهم عبد الناصر فقد فتح عليه ناصر النار بإخراج الملفات القديمة من الدرج، إذ اعتبره من رموز العهد الملكي.
يشير الكتاب كذلك إلى رفض عبد الناصر إعدام إبراهيم عبد الهادي رئيس وزراء مصر السابق في العهد الملكي، الذي حقق مع عبد الناصر بعد حرب 48، وبعد صدور الحكم بإعدامه أقنع ناصر الأعضاء بعدم قتله، والذهاب إلى حكم السجن المؤبد، وسبب ذلك شعور الجماهير في الشارع بالعطف والشفقة، لذلك لم يُرِد عبد الناصر الصدام مع مشاعر الجماهير.
أضواء على شخصية عبد الناصر
يقول مراد غالب سفير مصر لدى الاتحاد السوفييتي في مذكراته «مع عبد الناصر والسادات»: «لم يكن عبد الناصر ديمقراطيًّا بالمعنى الغربي، أي يؤمن بحرِّية تكوين الأحزاب وتبادل السلطة، إلخ. وفي زيارته للاتحاد السوفييتي في يناير 1970 كان يلبس بدلة أنيقة ولونها كان جميلًا، فقلت له مازحًا: “إيه يا ريس الوجاهة دي؟”، فقال عبد الناصر: “من أبو الأناور طبعًا”، ويعني أنور السادات. وأردف قائلًا: “أنا ليس لي هواية خاصة في ملبس أو مأكل، إلخ. وهوايتي الوحيدة هي السلطة، فالسلطة هي التي تمكِّنك من تحقيق آمالك وأحلامك في بناء دولة قوية متحضرة، فالسلطة ليست هي الغاية، ولكنها الوسيلة، والمشاركة في السلطة لا تجدي”.
يكمل مراد غالب شهادته بالقول: «ليس معنى هذا أن عبد الناصر كان يستلهم الوحي أو يصدر الأوامر دون دراسة أو الاستماع إلى آراء الآخرين، فقد كان من أهم صفاته قراءته لجميع التقارير المرفوعة إلى الرياسة. وكان في أحيان كثيرة يطلب تقارير في مشكلات وقضايا معيَّنة.
كان يجيد الاستماع. وفي كل مقابلة معه كان يبدأ بسؤالي عما جمعته من معلومات. كنت أعرض القضايا ساعة أو ساعتين لا يقاطعني فيها إلا بالاستفهام عن اسم معيَّن أو وظيفته المحددة. وبعد أن أنتهي يقول: “خلاص؟ قلت اللي عندك؟” ثم يبدأ هو في التعليق ثم نتبادل الآراء حول الخطوات.
كان عبد الناصر يكره أن تخرج من عنده وتقول إنه قال لي كذا وكذا وأنا قلت له كذا.. وتنشر الحديث الذي يدور معه. وكنت معتادًا هذا في تعاملي مع القادة السوفييت، فكنت أتحاشى أن أكرر ما قاله لي أحدهم أو أذكر اسمه أمام الآخر. وأعتقد أن هذا من أساسيات بناء الثقة والمحافظة على علاقات خاصة مع الزعماء»، كما يحكي مراد غالب.
إنّ البُعد السلطوي في شخصية ناصر يتأكد بقصة إحسان عبد القدوس معه، ففي عهد عبد الناصر عام 54 بعد مقالة بعنوان «الجمعية السرية التي تحكم مصر»، سُجِن إحسان مدة 6 أشهُر في الحبس الانفرادي، وفي هذه الفترة تجاهلت المجلة ذكر أخبار الضباط، وتجاهلت أخبار تحركات عبد الناصر، وهاتفه عبد الناصر وقال له: «سيعتذر لك عبد الحكيم عامر لأن البوليس الحربي تابع للجيش»، وعندما طلبه عبد الناصر لمقابلته قال له: «اتربِّيت ولا لسه يا إحسان؟».
الطريف أن عبد الناصر استمر في دعوة إحسان على الإفطار والغداء والعشاء، وأحيانًا جلسة سمر لمشاهدة فيلم في عرض خاص، وجاء يوم نظر إليه عبد الناصر وقال له بلهجة غامضة: «إنني يا إحسان بهذه الدعوات المستمرة أعالجك نفسيًّا»، ويتساءل إحسان: هل يعالج الجلاد ضحيته؟
توفيق الحكيم وعبد الناصر
يذكر الدكتور سيد أبو النجا جلسة للجمعية العامة في «الأهرام» -وكان أبو النجا يحضرها عن «دار المعارف»- علَّق فيها توفيق الحكيم على نقص في توزيع الكتب الثقافية، وجاء في تقرير لأبو النجا فقال مازحًا لهيكل: «كل هذا بسبب عبد الناصر بتاعك».
ردَّ عليه هيكل ساخرًا: «لو قلت هذا في عهده لكان شجاعة منك، أما وأنت تقوله الآن فهذا شيء آخر».
وأراد أن ينصرف إلى جدول الأعمال ولكن الحكيم استوقفه قائلًا: «كنت لا أستطيع أن أقول ذلك في عهده خوفًا من النفخ والواحات، أما وقد انطلقت الحرية في عهد أنور السادات فقد أصبح في وسعي أن أقوله». ثم قال الحكيم عبارة من عبارات الحسم: «وأنا لست فدائيًّا وإنما أنا مفكر». والقصة من كتاب «ذكريات عارية للسيد أبو النجا».
ويحكي سليمان فياض في كتاب «النميمة» عن منع عبد الناصر مجلة الآداب البيروتية بسبب قصيدة صلاح عبد الصبور «ذو الأنف المقوس والندوب»، إذ اعتبره تلميحًا عنه.
يحكي سهيل إدريس: «دخلت إلى غرفة عبد الناصر الخاصة، كانت بها أجهزة استماع لكل إذاعات العالم، وعلى كومودينو بجانب سريره كان صف بأكمله من مجلة الآداب. رحَّب بي ناصر وعاتبني، وقدم لي من بين الأعداد العدد الذي نُشِرَت به قصيدة صلاح “ذو الأنف المقوس والندوب”، وقال لي: “أنا تنشر عني ذلك؟”، فقلت له: “سيادة الرئيس، أنت تعرف الشعراء، ولم أفهم أن الشاعر يقصدك أنت، ولا أظن أنه يقصدك أنت”.
فابتسم عبد الناصر ولم يقُل شيئًا، ولكنَّ عينيه كانتا تقولان: أنت تعرف، وأنا أعرف. ووعَد برفع الحظر عن دخول “الآداب” إلى مصر.
اسم محظور في عهد السادات
يورد الكاتب محمد سلماوي في مذكراته «العصف والريحان» شيئًا من المنع والحظر لاسم عبد الناصر في سنوات السبعينيات التي امتدت إلى السنوات الأولى من حقبة الثمانينيات، في حملة ضارية ضد كل ما يمتُّ بِصِلة إلى فترة الستينيات التي كانت لا تزال في الأذهان، ولم يكن الحظر الذي فُرض على اسم جمال عبد الناصر في فترة السبعينيات قد رُفع بعد، حتى إنَّ الأغنيات التي كان يُذكر بها اسم «ناصر» أو «جمال»، مثل أغاني عبد الحليم حافظ أو أم كلثوم، لم تكن تذاع كاملةً، بل تُقطع فجأة قبل أن ينطق المطرب بالاسم المحظور.