مدونات
الكاتب: عبدالرحمن حسنيوي
يقول فرانكلين روزفلت الرئيس الـ32 للولايات المتحدة الأميركية: “ليس المجرم الحقيقي هو من يعتمد القتل أو ارتكاب أعظم المعاصي، بل هو الذي يملك شيئًا لا يكون من أهله بالغش والخداع، كالصحافي المقلِّد أو السياسي المنافق؛ لأن الواجبات الأولية في الصحافي أو السياسي هي أن يكونا حاصلَين على ثقة الشعب بمجرد القدوة الصالحة في الأعمال والأقوال”.
الصحافة، كوسيلة لنقل المعلومات وتشكيل الرأي العام، تحمل في جوهرها مسؤولية أخلاقية ثقيلة: نقل الحقيقة. ومع ذلك، ظهرت في القرن التاسع عشر ظاهرة جديدة، أطلق عليها “الصحافة الصفراء”، التي حادت عن هذه المسؤولية لتصبح أداة للإثارة والتلاعب بالمشاعر الجماهيرية.. ومن بين أبرز تجليات هذا الدور، تظهر الصحافة التبريرية لجرائم الاحتلال الصهيوني كوسيلة تُستخدم لتجميل وجه القبح، وتحويل الانتهاكات الصارخة إلى روايات مقبولة لدى الجمهور، تعمل هذه الصحافة على تقديم خطاب ناعم ومؤدلج يخدم أجندات الاحتلال، مستخدمة استراتيجيات تضليل متقنة وأطرًا خطابية تنزع عن الجريمة حقيقتها. أولى أدوات الصحافة التبريرية هي إعادة صياغة الأحداث ضمن إطار سردي يخدم مصالح الاحتلال الصهيوني، فيتم تصوير المعتدي كطرف يدافع عن نفسه، بينما يُختزل الضحية (المقاومة في غزة ولبنان…) في صورة تهديد، على سبيل المثال، يُشار إلى العمليات العسكرية كـ”دفاع عن النفس”، وإلى الجرائم المرتكبة بحق المدنيين كـ”أضرار جانبية”، وهذا ما شهدناه في عدوان الكيان الصهيوني على قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان…، حيث يتم بذلك قلب الحقائق وتوجيه تعاطف الرأي العام المحلي والدولي نحو الجاني بدلًا من المجني عليه.
علاوة على ذلك، يتم الاعتماد على الانتقائية التي تعتبر واحدة من أبرز أدوات الصحافة التبريرية، حيث تُركز التغطية الإعلامية على بعض الأحداث التي تخدم السردية المهيمنة، بينما يتم التعتيم على الجرائم والانتهاكات الواضحة كقتل الأطفال والنساء والاعتماد على سياسة التجويع والحصار، ففي الكثير من الأحيان، تتجنب هذه الصحف الإشارة إلى القوانين الدولية التي تُدين الاحتلال، وتُهمل السياقات التاريخية التي تكشف أصول الصراع.
لإضفاء الشرعية على الخطاب التبريري، تلجأ هذه الصحافة إلى استضافة خبراء ومحللين يدعمون سياسات الاحتلال، ويتم تقديم هؤلاء كأصوات موضوعية ومستقلة، بينما تُهمَّش الأصوات المناهضة للاحتلال، هذا النوع من الانتقائية يخلق انطباعًا زائفًا بأن الرواية التبريرية هي الوحيدة المقبولة والموثوقة.
كما تلعب اللغة دورًا محوريًا في صناعة الرأي العام، حيث تستخدم الصحافة التبريرية مصطلحات مخففة أو مضللة لوصف الجرائم، فبدلًا من كلمة “احتلال”، يتم استخدام تعبيرات مثل “إدارة أمنية” أو “نزاع إقليمي”، وبدلًا من “قتل المدنيين”، تُستخدم عبارات مثل “تصعيد أمني”، هذه اللغة تهدف إلى تجريد الجريمة من أبعادها الأخلاقية والقانونية.
فضلاً عن ذلك، إحدى أهم استراتيجيات الصحافة التبريرية هي تصوير المقاومة كعمل إرهابي وحشي، ويتم التركيز على الجانب العسكري للمقاومة مع تجاهل السياقات التي دفعت إلى هذا النضال التحرري.. بذلك، يتم تشويه نضال الشعوب المحتلة وتحويله إلى تهديد دولي، ما يبرر القمع الذي يمارسه الاحتلال ليل نهار وبطرق لا انسانية.
بالإضافة إلى ذلك، تتلاعب هذه الصحافة بمشاعر الجمهور من خلال إبراز ضحايا الاحتلال كرموز للمعاناة، بينما تتجاهل تمامًا آلام الضحايا من الطرف الآخر، كما يتم استخدام القصص الإنسانية والدموع لإثارة التعاطف مع الجاني، ما يُضعف التعاطف مع الضحايا الفعليين. تساهم هذه الصحافة في تعزيز القبول الشعبي لسياسات الاحتلال، خاصة في المجتمعات الغربية التي تُستهلك فيها هذه الروايات بشكل مكثف، الأمر الذي يؤدي إلى شرعنة الانتهاكات وتقويض الجهود الدولية لإدانة الجرائم، كما تساهم في تعزيز الانقسام العالمي حول الصراعات، مما يضعف المواقف الداعمة للعدالة.
ولمواجهة هذا النوع من الإعلام، يجب تعزيز الصحافة المستقلة وتوفير منصات بديلة تنقل الحقائق بموضوعية، كما أن التثقيف الإعلامي للجمهور يلعب دورًا حاسمًا في كشف أساليب التضليل والتلاعب. في الأخير، إن الصحافة التبريرية لجرائم الاحتلال ليست مجرد انحراف عن القيم الأخلاقية للإعلام، بل هي شريك غير مباشر في استمرار انتهاكات حقوق الانسان، لكن بتحليل خطابها وأساليبها يمكن الكشف عن دورها في تعميق الظلم، وفتح المجال أمام خطاب إعلامي أكثر إنصافًا وشفافية يكشف زيف أكاذيب وادعاءات سردية الاحتلال.