يتعين علينا أولا أن نفرق بين انتهاء الحرب على شعب غزة الأعزل وعلى مقاومته الباسلة، أو قل بين هذه الجولة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني وبين انتهاء الحرب لصالح فلسطين حتما في النهاية. هذه الجولة إن توقفت فورا أو بعد حين، إذا كنا مؤمنين بنظام دولي أو قانون جنائي أو حتى سياسات تمارس بقدر من التوفيق في ضبط حسابات الإقليم، أو حتى عما تبقى من إنسانية لدى صناع القرار في مجلس الأمن، فسوف تنتهي.
ضرب من الخيال أن تنتهي هذه الحرب لصالح الطرف الصهيوني مهما طال الزمن، ومهما مارس من إبادة وتنكيل، ومهما أفرط في وحشية المجازر والعدوان على البشر والحجر وحتى أشجار فلسطين التي سبقت هذا الكيان في تجذرها في أرض فلسطين، التي لم ولن تكون له ولو لمئة عام أخرى. ربما بشكل عملي أو موضوعي هذه الجولة ليست تلك التي يمكن معها تحقيق انتصار نهائي وجازم لسبب بسيط، أن المقاومة التي تضرب مثلا في بطولاتها تقف أمام كل القوى التي تدعم الكيان وتنتصر، لكنها أيضا تستنزف. أنا من المؤمنين بانتصار حاسم ونهائي للمقاومة بكل أشكالها بالمثابرة. وهي مثال حي في البطولة المثابرة وحسن التخطيط وعمق عملياتها.
المقاومة الآن تحقق ما هو أكبر وأعظم من حسم معركة أو تسجيل نقاط على العدو، هي تقرب المسافة جدا من تمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه كاملة، أو من الحق الذي يمكن أن تقبل به القوى الحية لشعب الفلسطيني وحاشانا أن نزايد عليها. الإجابة محسومة، ولكن بعد كم من الضحايا؟ وبعد أي حجم من الدمار؟ هذا سؤال لا تُساءل عنه المقاومة أبدا. يُساءل فيه العدو الذي يبيد البشر والحجر لكنه لن يفلح أبدا في محو فلسطين لا من الخريطة الدولية ولا في الوجدان العربي والمصري تحديدا.
مصر إحدى الدول القليلة التي تستطيع أن تمارس دورا فاعلا في النهاية الحتمية لحسم الصراع لصالح فلسطين، بطبيعة حجمها ومكانتها وموقعها وتاريخها الطويل في تبني القضية الفلسطينية. لكني كما قلت سابقا. مشكلة مصر وأؤكد ليس في قوتها الشاملة وطبعا من بينها قوتها العسكرية، إنما في إرادتها السياسية.
لو وضعت هذه الحتمية التاريخية على ميزان القانون الدولي الجنائي والإنساني، فإنك بأمانة سترى أن هذه السلطة قصرت ليس في حق الشعب الفلسطيني وحده وإنما في حق مصر نفسها. ليس عندي أي رد أقل مباشرة من هذا لإني طالبت به جهارا في بدايات هذه الجولة من الصراع منذ بدء العدوان الصهيوني على قطاع غزة. خمس مطالب طالبت بها هذه السلطة في مصر بشكل فوري، باعتبارها الحد الأدنى لدعم تعزيز صمود الشعب الفلسطيني. الرد دائما كان تعبير ”الإغاثة الإنسانية“. أنا كنت دوما أفصل بين لفظ ”الإغاثة“ ولفظ ”الإنسانية“.
“الإغاثة“ في رأيي هي تقديم كل ما يلزم لدعم صمود الشعب الفلسطيني البطل وتعزيز مقاومته الملهمة بكل ما يلزم. المطالب كانت فتح معبر رفح، واستضافة الفلسطينيين للإغاثة، والتدخل الفوري لإطلاق النار، والسماح لمن يريد العون من المصريين أن يقوم بواجبه بالوصول أولا لمعبر رفح، وأخيرا تدخل مصر لا باعتبارها وسيطا وإنما طرفا لإيجاد صيغة عادلة لإقامة دولة فلسطين ومراجعة أي اتفاقيات عربية مع المحتل لو لزم الأمر.
أما ”الإنسانية“ فهي في رأيي ممارسة كل الثقل الممكن – وفي جعبة مصر من هذا الكثير – من أجل وقف فوري للعدوان والإبادة على غزة وشعبها، والانطلاق فيما سبق لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، الذي يبرهن هو ذاته اليوم كما برهن على مدار ٧٥ عاما ويزيد على أنه متمسك بأرضه، مؤمن بحقه، ومستعد في سبيل ذلك أن يقدم تضحيات، لا يملك أي صاحب ضمير أمامها إلا أن يشعر بألم عميق لحجم الدمار وعشرات الآلاف من الضحايا، لكنه في ذات الوقت بفخر كبير بهذا الصمود الأسطوري في ظل انحياز فاضح للقوى الكبرى في النظام الدولي، وخلل هائل في موازين القوى. بقي أن أقول إن الإنسان المؤمن بقضيته، والمستعد أن يفيدها بروحه غير قابل للهزيمة. غير قابل للهزيمة.