مدونات

مأزق الكتابة: بين متلازمة المراجعة المتواصلة، ووهم المثالية

نوفمبر 25, 2024

مأزق الكتابة: بين متلازمة المراجعة المتواصلة، ووهم المثالية

الكاتبة: فاطمة الزهراء حبيدة

 

اتخذت الكتابة، في الآونة الأخيرة، منعطفا آخر، غير الذي كانت عليه في السابق، فبعد أن كانت الكتابة حصرا على النخبة، ساهمت المدونات، والمواقع الالكترونية، في تقريب المسافة بين المجتمع والكتابة، فأصبح حيز التعبير والكتابة جد متسع، ورغم كل الايجابيات المتاحة، والتي توحي بأن الكتابة عمل سهل، وتتم في ظروف مثالية، لكن الأمر على العكس من ذلك، فالكتابة لم تكن بالضرورة تلك الجلسة الهادئة، على طاولة المكتب الخاص، إلى جانب كوب القهوة ذو الرائحة الجميلة التي تفوح في المكان، فهذه الصورة المثالية بعيدة جدا عن ما تكون عليه الكتابة بشكلها الحقيقي، فمن خَبر الكتابة، ولازمها يدرك فعلا أنها جلسة من الشك، ولحظات من الريبة، والتساؤل، حيث تترنح مشاعر الكاتب بين الشك واليقين، وبين الشغف والملل، هذه المشاعر المتناقضة لا يعاني منها فقط من هو حديث العهد بالكتابة، فكُتاب كُثر عايشوا هذا الوضع، ناهيك عن الطقوس الغريبة التي كانوا يحرصون عليها لخلق جو ملائم لاسترجاع الشغف، أو في بعض الحالات الاستمرار في الكتابة بحضور الملل باعتباره الشعور الطاغي.

 

عن المراجعة المتواصلة والملل والشك كعنصر ملازم للكتابة

 

يحضرني في إحدى المرات، التي اخترت أن أكتب مقالا معينا، لازمني لوقت طويل جدا، حتى مللت من كتابته، لا أخفي أنه كنت مترددة بنشره، في كل مرة كنت ارغب في الحصول على المزيد من الوقت قدر الإمكان، كان وضعي حينها أشبه بإعداد طبخة مجهولة المكونات، فأي خطأ بسيط كان سيفتح علي أفواه المصححين، لكن لا بأس بقليل من ألم الانتظار، فكنت تارة أصحح، وتارة أحذف، ثم أغير فقرة، ثم عنوان، وهكذا، إلى أن تخوفت أن تلتصق بي صفة أني “متهاونة”، فالجهة الناشرة لا يهمها أحاسيسك وانطباعاتك ومخاوفك، بقدر ما يهم العمل النهائي داخل الأجل المحدد، فالناشر يقدس الوقت كثيرا، لا شيء مهم سوى الوقت المتفق عليه، وأما أنا فأهتم بكل شيء إلا الوقت، إذن ما الحل؟، ففي الأخير أدركت أن حالة الرضى الكامل لن تتحقق، ففي كل مرة هناك أفكار سأضيفها، وأخرى لن ارضى عنها، مستحضرة اقتباسا لعبد الفتاح كيليطو “قد يقضي المرء عمره يصحح قصيدة، وقد يموت وفي نفسه شيء منها، يموت وهو يعتقد أنها ليست تامة كاملة”، وما كان مني إلا أن أتحدى رغبتي في الكمال وأنشره، لكن بعد النشر تلك آفة أخرى، فالقراءة ما بعد النشر لها طعم خاص، وبالتأكيد ليس حلوا، خصوصا حين تعيد قراءة المقال، أو الرواية بصيغتها المنشورة، ويراودك ذلك الإحساس بالرغبة في إعادة تحيين تلك الأفكار، إضافة عشرات الأفكار بدل فكرة، تصحيح عبارة بعبارة أدق وهكذا، فالرغبة في تحيين العمل، هو وضع ملازم للكتابة، وهو ما عبر عنه كُتاب عرب، وأجانب، فمهما اختلفت أعمالهم، لكن شعورهم واحد “الشك، الريبة، الملل والرغبة في التصحيح”.

 

في كتاب “يوم من حياة كاتب” الذي تضمن انطباعات لـ 59 كاتب عن روتين الكتابة، من بينهم “سيباستيان باري” الذي تحدث عن روتين الكتابة لديه قائلا: “أشطب ما كتبته بشكل متقطع، ثم أعيد الكتابة من البداية، وأتعثر وأهلع ويحمر وجهي في غرفة الكتابة التي لا يراني فيها أحد”، أما “مارك هادون”، فتحدث عن الكتابة قائلا: “فعادة ما أرمي ما لا يقل عن ثلاثة أرباع ما أكتب، ثم أقوم بصياغة ما تبقى وإعادة صياغته، راجيا أن أصل إلى ما يرضيني في نسخة ما بين النسخة الخامسة عشرة، والخامسة وعشرين”، أما “هيلاري مانتل” فلم تكن تكتب بالتسلسل، كما أنها كانت تكتب عشرات النسخ المختلفة لوصف مشهد واحد، وأكدت: “أن الأيام التي كنت أكتب فيها وأتوقف عن الكتابة، ليست أقصر من غيرها، لكنها أيام محرجة، ومليئة بالقلق، وقد اتضح لي بعد ذلك أنها أيام منتجة ومفيدة”، أما “سومرست موم”، اعتبر أن الملل يجب أن يتسرب للكاتب قبل القارئ، معبرا عن ذلك بأنه “على الكاتب أن يكون أشد إحساسا بالملل من القارئ، أي أن يدرك الملل قبله”.

 

على المستوى العربي، تناول كتاب “المجالس المحفوظية” لـ”جمال الغيطاني”، حوارات ولقاءات مع نجيب محفوظ والتي جاء فيها ذكر لبعض الصعوبات التي واجهت نجيب محفوظ ومنها أسلوب الكتابة معبرا عن ذلك ب:”عندما جئت إلى الادب الواقعي، كان الأمر صعبا كان الأسلوب لا يمشي في يدي، لا يطاوعني دخلت في صراع بلا شعور بيني وبين اللغة ربما لو كنت أدري أنني في صراع كنت فقدت الاتجاه”، أما عن الكاتب المصري “أحمد خالد توفيق” في كتابه “اللغز وراء السطور: أحاديث من مطبخ الكتابة”، عبر على أن “الكتابة جزء من الجحيم بلا شك، فهي تجعلك في شك دائم، هل استطعت التعبير عن ما أريد؟ هل وفقت في كلماتي؟ هل النص جذاب؟ كيف أنهي القصة؟ ثم تأتي اللحظة الأسوأ هل هناك قصة أخرى بعد هذه؟”، فهكذا هي الكتابة محيرة، ومربكة.

 

إن الكتابة مأزق، لكن مأزق لابد منه، فأغلب هؤلاء الكتاب والروائيين عاشوا مرحلة الشك، والكآبة، والملل، وبعضهم واجه الانسداد الادبي أثناء الإعداد لأعماله، تذكرنا هذه الاقتباسات بأن الكتابة ليست بالضرورة جلسة هانئة، ومريحة، بل في الكثير من الأحيان متعبة ومربكة.

 

مثالية طقوس الكتابة: وهم مبالغ فيه

 

تعد مثالية طقوس الكتابة، وهم مبالغ فيه، لا أنكر أنه في حالات عديدة عندما كنت أضع في صفحتي الخاصة، صورة لكتاب أو مقال أشرع في كتابته، إلى جانب خلفية وردية اللون، وبطاقات الملحوظات المزخرفة، والمرتبة بألوان مبهجة، وقرطاسيتي الملونة التي تحمل تعبيرا مبتسما، كانت الحقيقة مخالفة لذلك تماما، فاللون الوردي كان في الأوراق فقط، أما الواقع كان سوداويا، فخلف تلك الصورة، ركام من الكتب الواقعة على الأرض، وأوراق ممزقة، ومزاج سيء لا أعرف ما سببه، (ربما الكتب نفسها)، وقهوة باردة، التي لا أدري لماذا وضعتها بجانبي رغم أنني لا استحمل مرارتها، ربما هي طقس من طقوس الكتابة، فكثيرون كانوا يضعون فنجان قهوة إلى جانب كتبهم؟ فإذا كان السر في فنجان القهوة، فلنضع ذلك الفنجان إذن، لكن يبدو أن السر لا يكمن في مرارة القهوة السوداء فحسب، ولا في تلك الجلسة المثالية والنخبوية، بل في المزاج السيء أيضا، والفوضى الذهنية، والألوان الداكنة، التي تعيد إلى أذهاننا أن الدافع للكتابة في الغالب، ليست تلك اللحظات الوردية، بل ذلك البؤس الذي نتجرعه، والوحدة التي تعيش داخلنا، والرغبة في أن يقرأنا الآخر، لنخبره أننا ها هنا، فالكتابة تعبير عن الذات، عن المزاج، والمشاعر، والتي لن تكون مثالية، مهما حاولنا جعلها كذلك.

 

فقد تكون البداية بكثير من الأفكار المبعثرة، وتنتهي بعمل أدبي عظيم، “فجوناثان سافران فوير”، في حديثه عن رواياته في كتاب “يوم من حياة كاتب”، يقول: “كل رواية كتبتها جاءت نتيجة أجواء سرية وغير فعالة ومحبطة وخاصة بها وحدها”، كما أن إحدى رواياته كتبها على طاولة الخياطة قديمة. وبخصوص الروائية “سوزان هيل” عن روايتها “من القلب”، فهي رواية كتبتها لا تملك حينها جدولا زمنيا واضحا، ولا تملك مكتبا، أو طاولة، أما “فال مكديرمد”، فكان يحبب أن تحيط به أجواء موسيقى البيانو أو أغنية هادئة، وأن تكون كلماتها غامضة وغير مفهومة.

 

خلافا لما سبق، يرفض البعض هذا النوع من الطقوس الكئيبة للكتابة، ففي كتاب “الحكاية وما فيها” لمحمد عبد النبي، في المحور المتعلق بـ”أوهام شائعة حول حرفة الكتابة”، استهله بنصيحة الكاتبة البريطانية “زادي سميث”، التي عبرت أنه لا يوجد ما يسمى أسلوب حياة كاتب، فبالنسبة لها أن الكتابة إما جيدة، أو ليست كذلك، كما تؤمن بضرورة التنظيم، والالتزام.

 

وبين أجواء المثالية المفرطة، أو التعاسة المفرطة، تكون الغلبة للصيغة النهائية، فالكتابة في بدايتها هي مأزق، لكنها تنتهي إما بعمل منشور وعظيم أو عمل على الرف وعظيم، ومهما كانت الظروف، والأجواء المحيطة بالكتابة، ففي الأخير كل الجهود تثمر، إذ تخلى المرء عن وهم المثالية، وأدرك أن أحسن الأعمال الأدبية، ولدت عبر المرور من مخاض فكري عسير.


شارك

مقالات ذات صلة