آراء

لا كرب بعد اليوم!

نوفمبر 24, 2024

لا كرب بعد اليوم!


في مشهد تمثيلي متقن، أو عبثي عفويّ لو أرادوه كذلك، لن نتوقف هنا، يجلس الرئيس الذي هدم مئات المساجد، وأزهق آلاف الأرواح، وأعدم عشرات الأبرياء، ويسجن عشرات آلاف من الصالحين، ويسرق أقوات مئة مليون مسلم، ويحاصر مليوني مرابط، ويبيع أراضي المسلمين قطعة قطعة، ويسلم الموحّدين لأعدائهم فردا فردا، يسأله العسكريّ السمج قبالته سؤالا مكتوبا بعناية “يا سيادة الريس.. هوّن عليك”، يريد الرئيس أن يصنع “حكمةً” كمثل التي تبدأ بـ”مر أعرابي على سيادة الرئيس الفاتح”، ليرد سيادته بموقف يجري مجرى الحكمة، كما يتصور، ليستذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحكي عن موقف سيدتنا فاطمة رضي الله عنها، مُسقطًا ذلك ضمنيا على نفسه وعلى شعبه، “تقول فاطمة رضي الله عنها واكرب أبتاه، فيقول صلى الله عليه وسلم: لا كرب بعد اليوم”، ويقول سيادة الرئيس لا كرب بعد اليوم، همّ يومين وماشيين.


ليس غريبًا على سيادة الريّس استحضار سيَر الأنبياء في تدين صوفي أجوف، لا هو من الدين ولا من الصوفية في شيء، لكنه من ذلك النوع المزيف، الذي يرتكب فيه الرجل الخطايا السبع، والجرائم البشعة، ويكون على كتفيه مظالم عشرات الملايين، وينام وتراب الأرض يلعنه، وغيم السماء يلعنه، وأهل البلاد يلعنونه كما يتنفسون، وهو قاتلهم وساجنهم وناهبهم وسارقهم وقَطاع أرزاقهم ونبّاش قبورهم وذبّاح عيالهم وسفّاح بلدتهم، لكنه على ذلك يتذكر الله بين كل فينة وأخرى، بلسانه لا بقلبه، ليفتت المشاعر ويدغدغ الأحاسيس، مستخدما سيَرا أطهر من الذكر على لسانه النجس.


يظن الرئيس نفسه في درجة بين الأنبياء وبين الله، يعتبر نفسه -من استدعاءاته الضمنية في غير مواضعها- امتدادا لأولي العزم من الرسل، يعاملهم في خياله كأصدقاء له، ابتعثه الله وقال له “خد دي -يقصد مصر- ووريني هتعمل إيه”، وذلك من نص حديثه في ترّاهات سابقة، فانقلب على رئيس مؤمن منتخَب من الأغلبية وشورى الناس، رجل لم تكن لتضام غزة في عهده، ولا ليجوع المواطن، ولا لتسرق البلاد بتاريخها وحضارتها وجغرافيتها في مزاد علني مفتوح منذ عشر سنين، وقتل من قتل، حتى قتل الرئيس نفسه، وسجن من سجن، حتى سجن الأمهات الحوامل حتى يلدن في السجن، حتى سجن الصغار القصّر، حتى سجن العلماء والشيوخ والأساتذة والدعاة، حتى سجن النساء الطيبات من الأمهات العجائز، ونكَّل بمن نكل، حتى جمع عليه دعوات شعوب تمثل وحدها نسبةً معتبرةً من الأمة الإسلامية، ثم يخرج لنا ليحدث عن الكرب؟ وعن موت رسول الله؟


والله ما كان على قلبي حين سمعته أقسى من ذكر النبي على لسانه، أردت حينها أن أصل إليه فأقطعه، أو أقتلع اسم حبيبي ونبيي وسيدي أطهر الخلق وأشرف الناس محمد صلى الله عليه وسلم، من حنجرته، أردت اقتلاع ذكر الحبيب من جوفه، شعرتُ بغيرة اكتشفت عبرها معنى جديدا، ومكانة خفية، لرسول الله في قلبي، اكتشفت حبًّا أشد وأكبر، يجعلني أبكي ليس لأنه موقف مؤثر، هو موقف حقير، وإنما لأن المؤثر هنا هو استعمال أعظم أسماء أهل الدنيا والآخرة، على لسان واحد من أحقر أهل الدنيا، عسى الله أن يكتبه من أحقر أهل الآخرة قريبا، بعد “يومين” يعلم الله مقدارهما، كما صدق الكذوب وهو كذوب مخادع، فيكون حقا لا كرب بعد اليوم!

لا كرب بعد اليوم أجل، بعد ذلك اليوم الذي يفيق المصريون من الكابوس فتلتقط الأمة أنفاسها، وما عزّت مصرُ إلا وعز جوارها وإخوانها، وما ذلت إلا وذُلوا وتجرعوا المرارة في كؤوس الأيام والسنين، لا كرب بعد اليوم على إخوتي، على أحبابي، على من أعرفهم ولا أعرفهم، في سجون الطاغية، حيث يقبعون في أسره منذ عشر سنين ونيّف، حتى كبر صغيرهم، وكهل شابهم، وعجز كبيرهم، وشابت فتاتهم، لا كرب بعد اليوم، حين يعود النيل إلى مجراه، والطيبات إلى أرضها، والمهاجرون إلى وطنهم، والمنفيّون المبعدون إلى ديارهم، وتعود الديار وإن خلت من بعض الأحباب بفعل سوطه المسموم، فخطفهم الموت وهو الذي قاده إليهم، وساقهم إليه، على مقصلة ظلمه وظلماته.


لا كرب بعد اليوم، حين يكون لرسول الله مكان في أرض مصر، لا يضام فيه أهله وأحبابه وأجساد التابعين المتقين من بعده على عهده، حين يكون لغزة هاشم كرامة عند مصر فيستطيع الشعب مد القوت والسلاح والعون والرجال إليها، حين تكون مصر متنفسًا لأمة أعياها سقم مصر كثيرًا، ونزفت خلال عشر سنوات فقط ما لم تنزفه خلال مئات من السنين. 


لا كرب بعد اليوم، الذي فيه ترحل، ونغلق على عهدك الستار، ونرى ذلتك على أيدي الأعزة، حتى تكون لمن خلفك آيةً وعبرة، ويركل الناس رأسك في الشوارع، وينكّلون بجسمك في الميادين، ويطحنون تحت ضروسهم وهم يبكون كل ذلك القهر فيك، ويعرف القاصي والداني حجم ما سرقت منهم وما تآمرت به عليهم، ونرى طغمتك تحاول التبرؤ منك والإفلات من مصيرك، فلا يجدون مصر إلا ضيقةً تسلمهم إلى أصحاب الحقوق، فيصبحون مداسًا على الطرقات، حتى يفارقوا الحياة جوعى وعطشى وعرايا، لا كرب بعد اليوم الذي ستبكي فيه وأنت لا تتذكر من الدنيا إلا آخرها، تلك الأحذية التي طبعت على خديك، ووجوه كل الشهداء الذين قتلتهم، والأبرياء الذين سجنتهم، والشرفاء الذين جوعتهم، تطاردك في شريط سريع على عينيك.


لا كرب بعد اليوم، اليوم الذي سيضحك فيه رسول الله حقا، حين يرى أحبابه من عباد الله المقهورين، يبكون من فرحٍ، ومن نصرٍ، ومن ظفرٍ، ومن زوال غم، ومن رفع همٍّ، ومن قصاص حقٍّ، ثم يضحكون.



شارك

مقالات ذات صلة