مدونات
في غزة، حيث لا يكاد الزمن يمر إلا كالجروح التي تتخبط في الذاكرة، وتتشابك الأيام لتكون كأشباح ماضٍ لا ينتهي، تظل كل لحظة هناك مثل صرخة في وجه العتمة! في ذلك الزمان والمكان الذي لا يعترف بالشروق أو الغروب، حيث لا يملك الأهالي من الأمل سوى ما يخبئه لهم الصبر من قوتٍ مستنزف، يسير كل شيء هناك وكأن الزمن يزحف من بقايا الألم، لا صباح يأتي بمستقبلٍ يلوح في الأفق، ولا ليل يخبئ خلفه وعدًا بالأمان! كل يوم يولد كامتدادٍ ليوم سابق، يظل فيه الحزن على حاله، لا تغيره الرياح ولا تغسله الأمطار.
في غزة، حيث تخرج الأشواق من أعماق القلوب المحطمة وتملأ الأفق صمتًا يصرخ من الداخل، تَنبُتُ الطفولة لكن في ظروفِ قاسية لا تشبه الطفولة التي نعرفها! أطفال غزة الذين حُرموا من نور التعليم وأخذوا من الحياة دروسًا مؤلمة تُسمع على نغمات المعاناة وتُسطر على جدران المدارس، هؤلاء الأطفال الذين لم يعرفوا لحظةً خالية من التوتر، تُثقل قلوبهم أحمالٌ أكبر من أعمارهم، وهم يكبرون في عالمٍ قد سلبهم حقهم في البراءة!
في كل زاوية من غزة، هناك قصة حزن وحلمٌ ضائع، وأمل مات قبل أن يولد وأما الجدران هناك، لا تكتفي بأن تكون حواجز، بل هي حطام فوق رؤوسهم تسقط، تحكي تاريخًا طويلًا من الصبر والمقاومة، تاريخٍ لن ينساه الزمان مهما مر عليه من أيام. أما على الجانب الآخر، فالعالم يواصل سيره في مهرجاناته، يتغنى بالفرح والبهجة، بينما غزة تواصل معركتها اليومية في البقاء على قيد الحياة، بين جوعٍ ودموعٍ وآلامٍ لا يراها إلا من كان هناك، تزداد صرخات الأمعاء الفارغة والعقول التي تشق طريقها في الظلام! لا أحد يسمع أنين غزة إلا هؤلاء الذين اختاروا أن يفتحوا قلوبهم لصرخاتها!
وأما الإنسانية، فيبدو أنها رحلت منذ زمن بعيد، لتصبح غزة بالنسبة للكثيرين مجرد نقطةٍ صغيرة على خريطةٍ شاسعة، جرحٌ عميق على وجه الأرض لا يُرى إلا بنظرةٍ مغمضة، حدثٌ عابرٌ لا يستحق أكثر من إعجاب لمرة أو مرتين ثم نتخطاه!
وإذا كان هناك من سؤالٍ يصرخ في الأفق، فهو “إلى متى؟” هذا السؤال الذي يوجهه كل طفل فقد لعبته، وكل أم ودعت فلذة كبدها، وكل شاب حلم بمستقبلٍ بعيدًا عن الموت والدمار غزة لا تطرح السؤال، بل تسأله بكل ما فيها من قلبٍ نابض، تسأله بألمٍ عميقٍ عن غياب من يتذكرها في خضم الأحداث الكبرى، عن غياب من يعترف بها كجزء من إنسانيته! “متى سيصير العالم كله يشير إليها كما يشير إلى جزءٍ عزيز من قلبه؟”.
لكن خلف هذه المعركة التي تبدو ظاهريًا صراعًا على الأرض أو على الوجود، هناك أبعادٌ أعمق! فالحرب على غزة، ليست مجرد هجومٍ عسكريٍ على أرضٍ أو دماءٍ تُراق بلا رحمة، بل هي هجوم على الهوَّية، على التاريخ، على قيمنا التي نحملها في أعماقنا! غزة التي تمثل الشجاعة، التي تتحدى كل من يظن أن الحق قد مات، وكل قذيفة تسقط عليها ليست مجرد قذيفة، بل هي رمزٌ للاعتداء على ديننا وعلى قيمنا التي ترفض الركوع أمام الظلم. لا يتعلق الأمر بحربٍ على أرضٍ فقط، بل بحربٍ على كل ما نؤمن به من مبادئ، على كرامتنا التي نُقدسها.
أما أولئك الذين اختاروا الوقوف مع الاحتلال والتخلي عن القضية، فلن يكون لهم سوى الخذلان، لأنهم يتاجرون بدمائهم ودماء شعوبهم، ويبيعون شرفهم مقابل حفنة من الأوهام، هؤلاء الذين يظنون أن التطبيع مع الاحتلال يمكن أن يفتح لهم أبوابًا جديدة من الرفاهية أو الأمان، هم أول من يسيرون في طريق الخيانة، لأن كل صفقة مع قاتلٍ في الحاضر لا تحمل سوى الخيبة والهلاك في المستقبل، ولن تكون سوى صفحة مظلمة في تاريخ الأمة العربية والإسلامية إننا وحين نواجه هذا التيار الذي يريد أن يعمي أعيننا عن الحقيقة، يجب أن نتذكر دائمًا أن الحُجَّة أقوى من السيف، وأن الحق الذي نعتز به هو الذي سينتصر مهما اشتدت الأوجاع وأما معركة غزة ستبقى الكاشفة والفاضحة لكل الوجوه الزائفة، ومهما زاد الألم سيبقى الأمل يتجدد والصبر الصمود أقوى من كل الجيوش وإنَّا غدًا لناظره قريب.