سياسة

 من نورمبرغ إلى لاهاي.. عدالة الإنسان الأبيض الوهمية

نوفمبر 23, 2024

 من نورمبرغ إلى لاهاي.. عدالة الإنسان الأبيض الوهمية


كانت قاعة المحاكمة مزدحمة بالمئات من الشهود والصحفيين.. فجأة صاح حاجب المحكمة، فظهر القضاة على المنصة يتوسطهم رئيس المحكمة اللورد البريطاني “جيفري لورنس”، ويجلس عن يمينه وعن يساره قضاة من ٣ جنسيات أخرى. 


بينما في الجانب الأيسر من القاعة، داخل القفص الكبير، كان المتهمون بارتكاب جرائم حرب يتحدثون ببطء، بعضهم يكتب الملاحظات، ويبدو من سمات وجوههم أنهم يدركون أن أحكام الإعدام ستلاحقهم. 


بعد دقائق من الصمت المهيب، تحدث القاضي البريطاني لورنس قائلًا: “ما حدث هنا ليس مجرد محاكمة للمتهمين الذين جلسوا في القفص، بل هو إعلان عالمي بأن القوانين الدولية ليست فارغة، وأن القسوة والاستبداد لن يُسمح بهما دون عقاب”، قبل أن يضيف القاضي الأمريكي: “الفظائع التي كشفتها المحاكمات غير مسبوقة في تاريخ الإنسانية، ونحن رسخنا مبادئ واضحة: لا أحد فوق العدالة، حتى أولئك الذين حكموا دولًا”.


وقبل أن يقرأ القاضي البريطاني الحكم النهائي، قال موضحًا: “الحزب الحاكم وكل منظماته المرتبطة به تُعتبر تنظيمات إجرامية. كل من خدم في الجيش وكل من كان عضوًا في أحد هذه التنظيمات يتحمل مسؤولية فردية عن الجرائم التي ارتُكبت”، واستطرد: “من ينتمي إلى تنظيم إجرامي هو شريك في الجريمة بلا ريب”.


كان هذا الإعلان إيذانًا بالنطق بأحكام الإعدام على الجالسين في القفص، والذين حاول بعضهم تبرئة أنفسهم من خلال الادعاء بأنهم كانوا “مجرد منفذين للأوامر”.


بكى الحاضرون في القاعة فرحًا، وهللت الصحف العالمية بالقرار. كتبت نيويورك تايمز: “نُطقت العدالة” وأعدم معظم المتواجدين في القفص حينها على وقع كلمات مثل: “العدالة” و”ثمن الاستبداد”.

 

المشهد ليس تمثيليًا، بل كان جزءًا من محاكمات نورمبرغ (١٩٤٥-١٩٤٦) التي عقدها “الحلفاء” لعدد من القادة النازيين المتهمين بارتكاب جرائم حرب. ولم يفرق الحلفاء، كما ذكر القاضي البريطاني، بين قائد وعسكري، للدرجة التي دفعت قادة دول الحلفاء للتفكير في إعدام ٥٠ ألف ضابط نازي دفعة واحدة دون محاكمات للاشتباه في ارتكابهم “جرائم حرب”. 

 

نورمبرغ القرن الحادي والعشرين

 

بعد ٥٦ عامًا من هذا اليوم، قررت ١٢٠ دولة من أعضاء الأمم المتحدة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، بغرض تنفيذ ما أعلنه قضاة نورمبرغ: “القوانين الدولية ليست فارغة، وجرائم الحرب لن تمر دون عقاب”.

طالبت المحكمة باعتقال أكثر من ١٠٠ شخص منذ تأسيسها، أشهرهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس السوداني السابق عمر البشير، وقادة أفارقة آخرون، يشترك ٩٠٪ منهم في عدم انتمائهم إلى المعسكر الغربي ولا إلى الحضارة الأوروبية.

  

محامي إسرائيل المنقلب عليها

 

المحكمة ظهرت على الواجهة نهاية العام الماضي، بعد تشجيع إسرائيلي للمدعي العام كريم خان بزيارة كيبوتس بئيري وعدد آخر من الكيبوتسات التي تعرضت للدمار في السابع من أكتوبر، ونظمت له جلسات استماع لمن قالت إنهم “ناجون” وسط أجواء درامية كما كان واضحًا من الصور التي نشرتها وسائل إعلام إسرائيلية لـ (خان) وهو يمسك بسرير مكسور لأحد الأطفال، ونتنياهو يشرح له ما جرى وفق الرواية الإسرائيلية.


وقد كان لنتنياهو ما أراد، خرج كريم خان من الجولة متهمًا حماس بارتكاب “جرائم حرب وجرائم اغتصاب”، رغم عدم حصوله على أدلة حقيقية واكتفاء نتنياهو بمنحه حكاوى شفهية، في مشهد مضحك لمدعى عام أكبر محكمة في العالم. مشهد لا علاقة له بالقانون والقضاء.


جاءت هذه التصريحات من خان تأكيدًا لما ذكرته صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” قبل الحرب بعامين، أن كريم خان هو “الرجل المفضل لإسرائيل في الجنائية الدولية”.


حتى هذه اللحظة، كان (خان) هو رجل نتنياهو المفضل. إذ يحتفي به الإعلام الإسرائيلي ويتداول حديثه عن “مجازر الكيبوتسات” كدليل إضافي من قامة قانونية وقضائية عالمية، خاصة بعد زيارة خان لمعبر رفح أثناء إغلاقه التام نهاية العام الماضي، وعدم إدانته الواضحة لإسرائيل حينها.


تغير هذا فجأة في مايو الماضي، بعدما طلب (خان) من الجنائية الدولية، بصفته المدعي العام، إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، وقادة من حماس. فتحول رجل القانون الدولي المحبوب إسرائيليًا، إلى أحد أبرز المعادين للسامية في العصر الحديث، على لسان نتيناهو. بل  وتبارت وسائل الإعلام الإسرائيلية في الهجوم على (خان) من جهة، والجنائية الدولية من جهة أخرى بوصفها “مركزًا للشرور وكراهية اليهود”، طبقًا لأحد المعلقين الإسرائيليين.

 

اتهامات نتنياهو والساسة الإسرائيليين لـ(خان) كانت طبيعية ومتوقعة، لكن ما يستدعي التوقف عنده هو موقف النخب الأمريكية، بعد أن خرجت تصريحات رسمية من إدارة بايدن برفض قرار المحكمة الدولية، وهدد مشرعون أمريكيون بأنهم “سينفذون عقوبات لا حصر لها” على قضاتها حال طلبهم اعتقال نتنياهو، واصفين الجنائية الدولية بـ “المؤسسة المارقة”.


كان لافتًا تعليق أحد أبرز المشرعين الجمهوريين في مجلس الشيوخ الأمريكي ليندسي غراهام أن “المحكمة تستطيع أن تقاضي الروس والأفارقة لكن لا علاقة لها بإسرائيل”، في أكثر عبارة فاضحة ومباشرة بلا حاجة حتى لتزيين الصورة أو الإيحاء بوجود نظام دولي وعدالة بين البشر، طبقًا للأوهام التي ذكرها قضاة محكمة نورمبرغ.

 

جدوى لاهاي

 

لأول مرة تجد إسرائيل نفسها في قفص الاتهام أمام الجنائية الدولية، ولأول مرة كذلك تطلب المحكمة اعتقال إنسانٍ أبيض سليل للحضارة الأوروبية، وهذا ما يبرر سعار الرفض الأمريكي لقرار المحكمة، ووعيدهم لكل من يحاول تنفيذه بطرده من جنة البيض، ونفيه للجانب المظلم من العالم (جانبنا)؛ فالأمر لا يتعلق فقط بإسرائيل، ولكن يتعلق بما قاله السيناتور ليندسي غراهام: “أخشي أن تكون الولايات المتحدة هي التالية”.


 هذا على مستوى “الرمزية”، ولكن على مستوى الفعل، فكما طالبت محكمة العدل الدولية “جارة الجنائية الدولية في لاهاي” بإيقاف الهجوم الإسرائيلي على رفح في جلسة تاريخية مايو الماضي، وأخرج الإسرائيليون ألسنتهم بمساعدة أمريكية في إطالة اللسان دون قطعه، وقاموا بتوسيع الهجوم أكثر بلا اكتراث، فإن قرار الجنائية الدولية لن يخرج عن كونه “لقطة تاريخية” ستُذكر في سطر سريع في كتاب التاريخ الذي سيوثق هذه الفترة السوداء التي يمر بها العرب.


تركوا غزة وحدها، وابتسموا لقاتلها، صافحوا يديه وعانقوه، وأدخلوه منازلهم، وبعدما حكمت محكمة بيضاء أنه مجرم، استعاذوا بالله، وودن من طين وودن من عجين. 



شارك

مقالات ذات صلة