مدونات
الكاتب: محمود قطب
كانت الأنظار غارقة في لا مبالاة قاتلة عندما اغتُصبت امرأة في محطة قطار شيكاغو المزدحمة، لم يصدر من الجماهير الهادرة في المحطة أي رد فعل يرقى لهيبة المأساة الواقعة، كأن عيونهم قد تآمرت مع الصمت على اغتيال النخوة، وقبل تلك الحادثة بأربعة وعشرين عاماً وتحديداً في عام 1964م اغتُصبت كيتي جينوفيز في أحد شوارع نيويورك، ولمدة ثلاثين دقيقة لم يأبه ثمانية وثلاثون متفرجا بصرخاتها، ولم يتقدم لنجدتها أحد إلا بعد مقتلها بطعنات متتالية وهروب الجاني، كانت هذه اللحظة نماذجية، وكان لتلك الواقعة وأمثالها أثراً عميقاً في دفع الباحثين للتحقيق في الأسباب التي تجعل الأفراد يمتنعون عن التدخل لمنع تلك الجرائم وإغاثة الضحايا، وقد توصل أساتذة علم النفس الاجتماعي بعد تلك الحادثة إلى ما يدعى بـ “عقلية المشاهد” ، والآن ليس واقع غزة من هذه الفظائع ببعيد، فلمدة عام كامل يتعرض شعبها لإبادة جماعية ليس لها نظير في التاريخ الحديث، ورغم صرخات واستغاثة 2000000 نازح بجذورهم العربية والإسلامية أن يهبوا لنجدتهم، تاهت أصداء صرخاتهم في فراغ العالم الموحش الذي يكتفي بمشاهدة المجازر عبر شاشات التلفاز، والتفسير العلمي الدقيق لهذا الواقع المرير وأسباب الوصول إليه يمكن أن يكون حلاً لهذه المأساة، ودافعاً لأن يلتقط أحدهم الخيط وينسج عليه نضالاً حقيقياً يساهم به في تغيير المشهد، فلم لا تهب الشعوب العربية لنجدة غزة ولماذا لا تستجيب الأمة لنداء المقاومة ؟
عقلية المشاهد
اصطلح علماء علم النفس الاجتماعي إلى تعريف عقلية المشاهد أو تأثير المتفرج بـ ” الامتناع عن تقديم المساعدة في الحالات الطارئة عند وجود شهود آخرين حيث تتشتت المسؤولية بين الحاضرين” ومع التأمل في الواقع نجد أنه يظهر بشكل واضح في بعض مواقف الشارع العربي اليوم تجاه مأساة غزة، يتجلى ذلك في بعض مظاهرات الأردن، التي تُوجّه دعواتها إلى الشارع المصري للتحرك الفعّال! كما يظهر في غيرها من الدول العربية وعلى منصات التواصل الاجتماعي، المسألة الأساسية هنا هي أن الفرد حين يقع في إطار هذه العقلية، يُحمّل دور الإنقاذ لغيره، ومع تصاعد نفوذ الدولة وتحولها إلى إله، تخلى الفرد والجمهور من مسؤولياتهم وترك أمر التدخل المباشر للدولة وحدها، وقد بدا هذا واضحاً في حادثة شيكاغو حيث لم يتحرك أحد من الحاضرين لإنقاذ الفتاة واكتفى واحد منهم بإبلاغ الشرطة، وكأن التدخل المباشر قد أصبح خارج نطاق مسؤوليات الفرد والمجتمع.
وهذا السلوك يفرض علينا ضرورة العمل على تعزيز المسؤولية الفردية تجاه قضية غزة، وتفعيل دور المجتمع في تحمل أعباء الأزمة، كما يفرض علينا التفكير في كيفية الوصول إلى السلطة في الدول المحيطة، لتكون قادرة على استنهاض الشعوب والمجتمعات نحو الفعل المؤثر في المعركة.
نداء ينقصه خطة
بعد الدراسات المتراكمة في علم النفس الاجتماعي لم يعد هناك شك حول أن الجماهير ليست ذكية بالدرجة الكافية، لكنها أيضًا ليست بليدة؛ إنها مرهونة بالعاطفة، وليست بالذكاء الكافي لإنتاج الأفكار أو صياغة الحلول، فهي كتلة عاطفية تتأثر أكثر مما تفكر، ولا يُطلب منها ذلك أصلاً؛ فهذه مسؤولية القيادات.
ولا يمكن أن تجد تفاعلاً عملياً من الجماهير عندما يكون خطابك لا يحمل في طياته خطة عمل واضحة، فحين تدعوهم لمجرد التحرك، سيكون السؤال البسيط المطروح، نعم سأتحرك ولكن إلى أين؟ وماذا سأفعل؟ الجماهير بحاجة إلى “روشتة” عملية، خريطة طريق مختصرة تُحدد الخطوات المطلوبة بشكل مباشر، وليس هناك جدوى من انتظار الجماهير لتوليد أفكار تنخرط بها في المعركة، هذا الأمر بات محسوماً في علم نفسية الجماهير، كما يؤكد غوستاف لوبون ” الجماهير ليست بحاجة إلى التفكير، فهي لا تفكر بعقولها بل تحكمها العاطفة” ، “أيَّا تكن الأفكار التي تُوحى للجماهير أو تحرّض عليها، فإنه لا يمكنها أن تصبح مهيمنة إلا بشرط أن تتخذ هيئة بسيطة جداً وأن تتجسد في نفوسها على هيئة صور”.
ولعل خطاب أردوغان ليلة الانقلاب العسكري عام 2016 مثالاً نموذجياً على ذلك، ففي أقل من خمس دقائق، وبجمل واضحة وبسيطة للشعب ” هذا انقلاب عسكري، الدبابات التي في الشارع لا تمثل الشعب، ادعوا الجماهير للنزول إلى الميادين والمطارات ومؤسسات الدولة والتعامل مع هذه الدبابات وتلقينها درساً” كان هذا الخطاب على قصره كافياً لإفشال انقلاب عسكري بأقل التضحيات، حيث حدد للجماهير دورها ومسؤوليتها بوضوح ودقة، محدداً المهمة التي يتعين عليها القيام بها بأسلوب بسيط ومباشر، بينما عجزت عشرات الساعات من الخطابات الطويلة في دول أخرى عن تحريك ساكناً أمام انقلابات مشابهة، رغم حجم التضحيات الضخم الذي كانت الجماهير مستعدة لتقديمه، بل فعلت وقدمته.
فالنداء على الجماهير يجب أن يكون معبئاً بخطوات عملية واضحة وإلا بقي مجرد صدى بلا أثر، وقد شاهدنا جميعاً مدى فعالية الخطابات التي تعتمد على توجيهات عملية في خضم المعركة، وتحديداً مسألة المقاطعة، التي دفعت شركات كبرى إلى الانسحاب من الأسواق العربية بعد تكبدها خسائر فادحة، وإذا كانت المقاومة نفسها تعجز عن التصريح بخطوات صريحة بسبب اعتبارات سياسية وأمنية، ووضعها الإقليمي وجغرافيتها، فإن الواجب هنا يقع على الحركات والمنظمات والجماعات في الدول الأخرى، التي يمكنها أن تقوم بهذا الدور، في صياغة خطة عمل تُترجم نداءات المقاومة للجماهير إلى أفعال حقيقية ومؤثرة.
غياب الجماعات الوسيطة
لا شك بأن حركة الشعوب تغير مسار التاريخ، وتحرك الجماهير يحمل قدرة سحرية على طي صفحات الواقع وفتح آفاق جديدة، لكن حركة الشعوب والجماهير عبر التاريخ قليلة وبطيئة، وليس هناك ما هو أكثر بؤساً من سياسي يقف مكتوف الأيدي منتظراً حركة الشعب ليغير واقعه، فالشعوب في حالة سكونها رقماً صامتاً في المعادلات السياسية، بلا تأثير حقيقي، ويكون الصراع حكراً على التجمعات المنظمة التي تمتلك الأدوات اللازمة للتأثير والفعل، سواء كانت هذه التجمعات حاكمة أو محكومة، هذه التجمعات المنظمة هي القادرة على اتخاذ القرارات وتحريك المؤسسات أو توجيه وحشد الجماهير التي غالباً لن تتحرك من تلقاء نفسها، وتحتاج إلى طليعة فدائية مخلصة تقوم بدور قاطرة الدفع.
وفي ظل غياب وتغييب الجماعات والحركات في بلداننا العربية فإن تشكيل التكتلات والحركات المنظمة، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، يمكن أن يساهم في الدفع نحو تحرك شعبي أو عمل فاعل مؤثر لخدمة القضية، فالحركات هي الأداة التي يمكنها أن تحول الغضب الكامن إلى فعل، والشعارات إلى حركة ميدانية.
النضال الحقيقي في عواصمنا
ليس هناك حاجة إلى كتاب بوب ودوورد أو مقالات توماس فريدمان أو دنيس روس لنكتشف خيانة وعمالة الحكام العرب وارتباطهم العضوي بالمشروع الصهيوني، فقد بات واضحاً أن هؤلاء الحكام أكثر نفعاً وفائدة لإسرائيل من نتنياهو نفسه، بل هم القبة الحديدية الحقيقية التي تضمن لإسرائيل أمنها واستمرارها، وقد صار هذا الأمر أوضح من الشمس في رابعة النهار بعد أكثر من 400 يوم من حرب الإبادة على غزة وسط صمتهم بل وتواطؤهم المكشوف.
وقد بات واضحاً اليوم أن نصرة غزة مرتبط تماماً بسقوط هؤلاء الخونة الذين يحتلون عواصم العرب كما يحتل الصهاينة فلسطين، وأكثر وضوحاً منه أن تحرير القدس يبدأ بتحرير القاهرة وعمان والرباط والرياض وبقية العواصم التي ترى في الاحتلال شريكاً استراتيجياً، وفي المقاومة خطراً وجودياً، فمن أراد أن ينصر غزة -من خارجها- فعليه أن يدرك أن المعركة الحقيقية ليست مع نتنياهو بل مع هذه الأنظمة التي تمثل الحصن الأول لإسرائيل في المنطقة، فهؤلاء الحكام هم السد الذي يمنع الشعوب من أن تنجرف نحو غزة لنصرتها، والعائق أمام كل مشروع تحرري، فإسقاطهم لم يعد خياراً بل ضرورة وهو السبيل الوحيد لنصرة غزة وتمكين الأمة من استعادة دورها الريادي.
المراجع
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي _ مايكل كوك
سيكولوجية الجماهير _ غوستاف لوبون
علم نفس الجماهير وتحليل الأنا _ سيغموند فرويد
The Unresponsive Bystander: Why Doesn’t He Help? – Bibb Latané, John M. Darley