سياسة
المؤسسة العسكرية المصرية، إحدى أكبر القوات المسلحة عديدا وعتادا في الشرق الأوسط. وكانت حتى عام ٢٠٢٠/٢٠٢١ تملك أحد أضخم الترسانات من الأسلحة التقليدية الثقيلة في المنطقة وفقا لقواعد البيانات المتخصصة. فضلا عن هذه الترسانة، ازدادت صادرات الأسلحة الثقيلة والنوعية في العام الأخير وسط مشهد مصري غير مستقر أمنيا بسبب إغلاق المجال العام وإفقار الشعب المصري وتحديات انفجار المشهد الداخلي في أي لحظة، ناهيك عن تحديات أمنية حقيقية على كل حدود مصر تقريبا سأفصلها في مقال لاحق بدءا من معركة الجيش المصري في سيناء منذ ٢٠١٥ مع الجهاد الراديكالي وصولا للإقليم وموضع مصر من صراعاته.
عمل الرئيس الحالي لمصر عبد الفتاح السيسي على استثمار ما يقارب أربعة مليارات دولار سنويا في المؤسسة العسكرية المصرية، استنادا إلى بيانات وزارة المالية ، كما يتذيل الموقع الخاص بوزارة الدفاع كل مشروعات القوات المسلحة عدا الإنجازات العسكرية، وهذا مفهوم بالبديهة. اللافت تصدير الموقع تفاصيل عن مناورات تدريبية تجريها القوات المسلحة المصرية مع نظيرتها السعودية في البحر الأحمر تحت اسم ”السهم الثاقب“. التفاصيل عن المناورة دقيقة بشكل لا يتناسب مع طبيعة هذا النوع من المناورات التدريبية، إذ ذكرت التالي في المنشور ”بنطاق المنطقة الجنوبية العسكرية ومسرح عمليات الأسطول الجنوبى بالبحر الأحمر وعدد من القواعد الجوية بجمهورية مصر العربية.“ بالمقابل لم تعلق إسرائيل على هذه المناورة؛ علما بأن محور صلاح الدين / فيلاديلفيا مهدد علنا من إسرائيل لأكثر من عام.
لافت أيضا بقراءة الموازنة العامة للدولة والتقارير الاستخباراتية المتاحة لعدة سنوات أنه بين عامي ٢٠١٠ و ٢٠١٩ تفاوت استثمار المؤسسة العسكرية المصرية في شراء الأسلحة بين سنة وأخرى، بالنظر للأزمة الاقتصادية الطاحنة وانهيار سعر الجنيه المصري والتهديد المحيق بمصر الواشي بانهيار العملة المحلية تماما لو حُرر سعر الصرف كاملا تحت وطأة الدين العام و سياسة الإفراط في الاقتراض وحجم الدين الخارجي وخدمة الدين. كل ذلك لم يعطل مشاريع المؤسسة العسكرية ومكاسبها التي سبق وكتبت عنه تفصيلا في مقال سابق.
حجم الميزانية الدفاعية لمصر
بحسب المؤسسات البحثية المختصة بدراسة البيانات بدءاً من تلك المعلنة من جانب مؤسسات الدولة المصرية أو من الدول المصدرة للسلاح أو التقارير المستقلة المعنية بالتسليح مثل موقع تريدنج إيكونوميكس، فإن ميزانية الدفاع المصرية في عام ٢٠٢٤ بلغت حتى الآن ٥.٢ مليار دولار، بما في ذلك المعونة العسكرية الأمريكية السنوية. وينتظر أن تزداد ميزانية المؤسسة العسكرية المصرية بمعدل ٣٪ ما بين عامي ٢٠٢٥ – ٢٠٢٩ بافتراض بقاء الظرف الإقليمي والمحلي سائرا بثبات نسبي. رصدت الأبحاث العسكرية المستقلة أيضا أن تعاظم مداخيل المؤسسة العسكرية المصرية ينعكس جليا في محاولات معلنة من الدولة المصرية بالاستثمار في تحديث المنظومة التسليحية وجهوزية قواتها في الوضع الإقليمي الملتهب بسبب حرب الإبادة على غزة ودخول لبنان وسورية واليمن على خط المواجهة مع إسرائيل. أضيف إلى ذلك الصدامَ المؤجل بين مصر وإثيوبيا بسبب السد الإثيوبي، ومخاوف المؤسسة العسكرية من انفجار الأوضاع داخليا مع حالة الغليان الشعبي والسياسي والنقابي، وكذا التخوف بشأن قناة السويس في ضوء محاولات في شرق المتوسط للاستئثار بالملاحة وإبعاد القناة عن احتكار طرق التجارة.
ماهية الإنفاق العسكري
كل ما بحثت فيه وقرأته من أبحاث أو قواعد بيانات دولية أو محلية يستند فقط إلى بيانات إما وزارة الدفاع المصرية أو وزارة المالية، وهي شحيحة بالطبع وغير مفصلة بطبيعتها. يذهب معهد ستوكهولم لأبحاث السلام وقواعد بياناته للصفقات المعلنة في شراء وبيع السلاح دوليا إلى تفصيل ماهية الإنفاق لأي مؤسسة عسكرية أن تفصيل ميزانية الدفاع لأي دولة يكون كالتالي: ١)القوات المسلحة. ٢) وزارة الدفاع وأي مؤسسات رسمية في الدولة توكل لها المؤسسة العسكرية بعض مهامها في حمل السلاح. ٣) مواقع التدريب والأنشطة الدفاعية والمناورات وغيره. ٤) القوات غير الرسمية أو المدنية ويأتي تحت هذا البند الصرف على الأفراد بما فيها رواتب القوات المسلحة والمدنية، العمليات والصيانه، البحث العسكري وتطوير المؤسسة. ٤) وأخيرا المعونات أو المساعدات العسكرية الواردة من خارج الدولة. قد تندرج بعض البنود السالف ذكرها تحت مظلة مشتركة للمؤسسة العسكرية والمخابرات الحربية أو الشرطة العسكرية أو قوات الأمن المدنية (الأمن الوطني) في بعض أوجه النشاط العسكري في حالات بعينها.
بالنظر إلى بيانات وزارة المالية وما تعلنه عن الموازنة العامة للدولة أو البيانات النادرة جدا لوزارة الدفاع، ودراسات مالية مختصة، ينبغي النظر لتقدير حجم ميزانية المؤسسة العسكرية إلى بنود الدفاع عن الأمن القومي، ميزانية الأمن الوطني وقبله الأمن المركزي إما تشاركيا مع وزارة الداخلية وإما كاملا من المؤسسة. المخابرات العسكرية بالمثل إما بين المؤسسة وجهاز المخابرات العامة أو كاملا من المؤسسة العسكرية. فلو كانت ميزانية هذه القطاعات كلها تُقتص من الموازنة العام للدولة، فمن حق دافع الضرائب أن يعرف فيم تُصرف أموال هذه الضرائب. لابد من جهة رقابة تحاسب المؤسسة ووزارة الدفاع والإنتاج الحربي، وجهة تشريعية بعد التدقيق يحاسب أمامها المسؤول عن صرف الأموال في غير أوجه الصرف إن حدث، تحت وطأة الأزمة الاقتصادية المخيفة في مصر.
رصدت دراسات تخصصية أن حجم الإنفاق العسكري في مصر تضاعف بالمقارنة بالعشرية قبل الأخيرة. وأن في عام ٢٠١٩/٢٠٢٠ ارتفع معدل إنفاق المؤسسة بنسبة ١٦١٪ مقارنة بعامي ٢٠١٠/٢٠١١. تضاعف ذلك في ازدياد مضطرد منذ عام ٢٠١٣/٢٠١٤ بما يشي بارتفاع مداخيل الرتب العليا في المؤسسة، كون مشروعات الجيش لا رقابة عليها. ترصد مصادر صحفية إماراتية حجم ميزانية المؤسسة العسكرية المصرية، كما أعلنت الصحافة الموالية للسلطة في مصر أنها تسلمت 886 مليار دولار للجيش المصري، و 704 مليار دولار للإنفاق غير الدفاعي. كل ذلك على الرغم من خفض تصنيف مصر الائتماني أكثر من مرة، وغرق مصر في الاقتراض وقفز الاستدانة الخارجية والعجز في الموازنة والتعسر في خدمة الدين والوفاء بالتزامات الدولة للمواطن.
من باب التدقيق لابد أن نقرأ الأرقام الرسمية المصرية بالمضاهاة بقواعد بيانات مستقلة لرصد أي تباين نحقق فيه. في هذا المضمار أطرح أسئلة سألتها قواعد بيانات ومؤسسات تراقب حركة تجارة السلاح في العالم وتبحث عن الجهات المعنية. وللإنصاف قد تندرج بعض الأسئلة تحت بند الحفاظ على سرية (بعض) الإجابات.
أعمد هنا إلى طرح أكثر من سؤال يخص الشعب وموازنة الدولة، وطبعا لا إجابة لأسئلتي إلا لدى المؤسسة العسكرية لانعدام الرقابة تماما على ميزانية المؤسسة، حتى في غير أوجه الرقابة العلنية كحجم ترسانة السلاح مثلا. لا رقابة على أي نشاط يخص المؤسسة العسكرية يضبط حجم نفقاتها أو يراقب أداءها أو ما تحققه من أرباح. في عام ٢٠١٩ مثلا كان عبء التسليح كبيرا بسبب انخفاض معدلات النمو في مصر لأقل من 4٪. فإذا ماكان فقط يقع هذا العبء على ميزانية وزارة الدفاع أو الموازنة العامة للدولة أو كليهما يظل عبئا ثقيلا على ميزانية يُفترض أن تتأثر بما يحد باقي القطاعات في مصر. ما يحدث هو العكس، ازدهار مشاريع المؤسسة العسكرية مقارنة بقطاعات أخرى لمشروعات رؤوس الأموال الوطنية الخاصة والقطاع العام وقطاع الاستثمار المحلي وغيرهما. عملية سيناء ٢٠١٥ لتطهيرها من الجهاد الراديكالي – قصة سأفرد لها مساحة مهمة في المقال القادم – بالتأكيد استنزفت هذه العملية موارد ضخمة للمؤسسة، على افتراض أن “ميليشيا العرجاني“ لم تكلف العملية أو تضخ بها أي موارد مالية فضلا عن الموارد البشرية التي وفرتها بالفعل. فكيف نفسر ازدهار مشروعات ”الجيش“ كما يسميها المصريون وانهيار كل القطاعات الأخرى تقريبا؟
وزارة المالية المصرية تصدر بيانات أذون الخزانة المصرية المرتبطة بالعطاءات، لكن التعتيم على الأنشطة الأخرى للقوات المسلحة في قطاعي الصناعة والتجارة يؤدي بالطبع إلى ضبابية وشك من دافعي الضرائب في مصر. التقارير الرسمية تؤكد أن الارتفاع الأبرز كان بين عامي ٢٠١٣/٢٠١٥ ومؤخرا في العام الفائت إبان حرب الإبادة على غزة. حتى الرواتب للرتب العليا يفترض أن تتأثر بمعدلات التضخم وانهيار العملة المحلية.
ميزانية ”الدفاع والأمن القومي“
عادة ما تعدد المؤسسة العسكرية في ميزانيتها ”المعلنة“ أوجه صرف ميزانيتها في بندين: ١) الدفاع ٢) الأمن القومي، وصرف ذلك إما لأجنحة المؤسسة، أي الدفاع والإنتاج الحربي، أو تحت بند المصاريف الإدارية كالرواتب والتعويضات للمصابين والكفالة الاجتماعية والمعاشات والامتيازات وما إلى ذلك. ما غير ذلك ليس علنيا، ولم يرد أبدا أن المجلس التشريعي ساءل المؤسسة العسكرية أو قياداتها. فلا مساءلة أو رقابة أو محاسبة في السنوات العشر الأخيرة ولا قبل ذلك للإنصاف. اللافت جدا أن البندين المعلنين يبتلع أحدهما وهو الدفاع والأمن القومي ما يقارب ال ٩٩٪ من إجمالي ميزانية الدفاع بينما بالكاد يصل بند الرواتب والامتيازات لأقل من واحد بالمئة. بالعين المجردة لا يمكن أن تكون رواتب صفوة الرتب في القوات المسلحة المصرية أو تمويل قطاعها الاقتصادي المهول من الواحد بالمئة. ملاحظة أخرى ترتبط بتعيين جل الباقي من ال٩٩٪ ل ”مكتب وزارة الدفاع“، فهل يعني ذلك أن الصف الأول في الرواتب العليا في القوات المسلحة منخفضي الدخل؟ سؤال تقريري حقيقة.
ميزانية التسليح
ترصد أكثر من قاعدة بيانات، إلى جانب صفقات السلاح المعلنة سواء المصنعة محليا أو المشتراة من الخارج تراجع تصنيف الجيش المصري مقارنة بالعشرية قبل الأخيرة. تعتمد مصر في الأغلب الأعم باستثناء المُسيّرات محلية الصنع والتي استعرضتها وزارة الدفاع في معارض تسليحية تغطيها وسائل الإعلام الموالية للسلطة بكثافة (إيديكس). على الرغم من تراجع قطاعات أخرى بسبب حرب أوكرانيا والتضخم العالمي وارتفاع الاقتراض المحلي والدولي لمصر. صُنفت مصر بين ٢٠١٥-٢٠١٩ في المرتبة الثالثة في العالم على قائمة الدول استيرادا للسلاح، والثانية في منطقة الشرق الأوسط بعد السعودية بفارق كبير لكن الترتيب يبقى. بالتحليل الصحفي يتضح أن بناء الترسانة الأسلحة المصرية لا ترتبط اطرادا بميزانية المؤسسة المسلحة المعلنة. كذلك صُنفت مصر في أحدث قواعد بيانات صفقات السلاح الرسمية الثالثةَ بعد السعودية وإسرائيل وقبل تركيا وإيران في إتمام صفقات استيراد السلاح. نتفهم هذه القفزة بسبب الحرب على غزة والتنافس بين مراكز القوى في المنطقة.
أسئلة مشروعة لدافع الضرائب المصري
من هذه الأسئلة مثلا هل تمول أنشطة المؤسسة العسكرية الربحية والدفاعية من ميزانية الدولة؟ ما حجم ميزانية الدفاع؟ هل هناك ميزانية مخصصة للقوات المسلحة؟ من أين تأتي؟ من يراقب هذا الإنفاق ويحاسب سوء الأداء؟ فيم تصرف أموال المعونة العسكرية الأمريكية لمصر كل عام؟ من أين تأتي أموال شراء الأسلحة من الولايات المتحدة وفرنسا وغيرها؟ هل تتداخل ميزانية المشروعات الاحتكارية لكل القطاعات الاقتصادية تقريبا للمؤسسة العسكرية مع ميزانية الدفاع؟ كيف؟ وما جهة الرقابة على هذا التداخل أو عدمه؟ من أين تأتي رواتب الصف الأول والثاني من الرتب العليا في المؤسسة؟ هل تتداخل هذه الرواتب مع مشروعات ترأسها رتب عليا أيضا؟ هل هناك من هذه الرتب من يتفرغ تماما للدفاع وأنشطته أو بالعكس لمشروعات المؤسسة؟ على أي معيار؟ في أي شريحة ضريبية يصنف كل ذلك؟ هل المؤسسة العسكرية المصرية داخل دورة رأس المال المصرية؟ كيف لا يؤثر انخفاض موارد المؤسسة العسكرية في ظل تعسر الدولة اقتصاديا حتى بدفقة المعونة العسكرية الأمريكية السنوية لمصر، بينما تبقى أوجه صرف المؤسسة العسكرية صاعدة بثبات وصف الرتب الأعلى واستثمارات الجيش في صعود؟ أين المواطن المصري من هذه البحبوحة؟ ومن يحاسِب على إفقاره وتجويعه؟ وكيف يمكنه الاطمئنان على روحه في ظل الخطر المحدق بمصر على كل حدودها؟ كيف أثرت الطفرة الهائلة في ”مشاريع الجيش“ على جهوزية المؤسسة؟
في المقال القادم (إن عشنا) أكتب عن دور ومدى نجاعة المؤسسة العسكرية في تأمين حدود مصر وتحديات الإقليم..
كُتب هذا التحقيق مفتوح المصادر بالاستعانة ب: